مصطفى صادق الرافعي.. يصف القرآن الكريم
…آيات منزلة من حول العرش ، فالأرض بها سماء هي منها كواكب ،
بل الجند الإلهي قد نشر له من الفضيلة علم و انضوت إليه من الأرواح مواكب ،
أغلقت دونه القلوب فاقتحم أقفالها ، و امتنعت عليه أعراف الضمائر فابتر أنفالها .
وكم صدوا عن سبيله صداً ، و من ذا يدافع السيل إذا هدر ؟
و اعترضوه بالألسنة ردا ، و لعمري من يرد على الله القدر ؟
و تخاطروا له بسفائهم كما تخاطرت الفحول بأذناب و فتحوا عليه من الحوادث كل شدق فيه من كل داهية ناب .
فما كان إلا نور الشمس .
لا يزال الجاهل يطمع في سرابه ثم لا يضع منه قطرة في سقائه ، و يلقى الصبي غطاءه ليخفيه بحجابه ثم لا يزال النور ينبسط على غطاءه .
وهو القرآن كما ظنوا – مما إنطوى تحت ألسنتهم و انتشر – كل ظن في الحقيقة إثم ، بل كل ظن بالحقيقة كافر ،
و حسبوه أمرا هينا لانه انزل في الأرض على البشر .
كما يحسب الأحمق في هذه السماء أرضا ذات دوابْ ، نورانية لان هلالها كأنما سقط من حافر .
وكم أبرقوا وأرعدوا حتى سال بهم وبصاحبهم السيل ,
وأثاروا من الباطل في بيضاء ليلها كنهارها وليجعلوا نهارها كاليل فما لهم إلا ما قال الله :
“بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل”
ألفاظ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة , وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة ,تذكر الدنيا فمنها عمادها ونظامها وتصف الآخرة فمنها جنتها وصرامها , ومتى وعدت من كرم الله جعلت الثغور تضحك في وجوه الغيوب
وان أوعدت بعذاب الله جعلت الألسنة ترعد من حمى القلوب .
ومعانٍ بينا هي عذوبة ترويك من ماء البيان ، ورقة تستروح منها نسيم الجنان ، و نور تبصر به مرآة الإيمان و وجه الأمان …
و بينما هي ترف بندى الحياة على زهرة الضمير ، و تخلق في أوراقها من معاني العبرة معنى العبير ، و تهتب عليها بأنفاس الرحمة فتنم بسر هذا العالم الصغير ..
ثم بينما هي تتساقط من الأفواه تتساقط الدموع من الأجفان ، و تدع القلب من الخشوع كأنه جنازة ينوح عليها اللسان ، و تمثل للمذنب حقيقة الإنسانية حتى يظن انه صنف أخر من الإنسان .
إذ هي بعد ذلك إطباقُ السحاب وقد انهارت قواعده و التمعت ناره وقصف في الجو رواعده وإذ هي السماء وقد أخذت على الأرض ذنبها ، واستأذنت في صدمه الفزع ربها، فكادت ترجف الراجفة تتبعها الرادفة : و إنما هي عند ذلك زجرةٌ واحدة : فإذا الخلق طعام الفناء وإذا الأرض ” مائدة” .
توهموا السحر ما توهموه ، فلما انزل الله كتابه قالوا : هذا هو السحر المبين .وكانوا يأخذون في ذلك بباطن الظن فاخذوا وهذا بحق اليقين “أفسخر هذا أم انتم لا تبصرون ” ومن الشعر ما تسمعونه أم أنتم لا تسمعون ؟
بل إنه لسحر يغلب حتى يفرق بين المرء وعادته ، وينفذ حتى ينصرف بين القلب و إرادته.
ويجري في الخواطر كما تصعد في الشجر قطرات الماء، ويتصل بالروح فإنما يمد لها بسبب إلى السماء
وإنه لسحر إذ هو ألحاظ لم تعهد علم أحداقها ، وثمرات لم تنبت في قلم أوراقها ،
ونور عليه نورق الماء فكأنما اشتعلت به الغيوم وماء يتلألأ كالنور فكأنما عصر من النجوم
وبلى إنه لشعر رنه مباينة في معانيه وزينة معانية في مبانيه ، فكل معنى ولا جرم من بحر وكل لفظ كاللؤلؤة في البحر
وانه لشعر إذ هو آيات لا يجانس كلامها البديع غير كما لها ،وحقيقة في الوجود لم يكن يعرف غير خيالها ومرآة في يد الله تقابل كل روح بمثلها..
يقولون مجنون بعض آلهتنا اعتراه ، وأساطير الأولين إكتتبها أم يقولون افتراه!..
بلى إن العقل الكبير في كماله ليتمثل في العقول الصغيرة كأنه جنون
وإن النجم المنير فوق هلاله ليظهر في العيون القصيرة كأنه نقطة فوق نون
وهل رأوا إلا كلاماً تضيء ألفاظه كالمصابيح فعصفوا عليه بأفواههم كما تعصف الريح يريدون أن يطفئوا نور الله !
وأين سراج النجم من نفخة ترتفع إليه كأنما تذهب تطفيه، ونور القمر من كف يحسب صاحبها أنها في حجمه فيرفعها كأنما يخفيه..
وهيهات هيهات دون ذلك درج الشمس وهي أم الياة في كفن وإنزالها بالأيدي وهي روح النار في قبر من كهوف الزمن…
لا جرم أن القرآن سر السماء فهو نور الله في أفق الدنيا حتى تزول..
ومعنى الخلود في دولة الأرض إلى أن تدول وكذلك تمادى العرب في طغيانهم يعمهون وظلت أياته تلقف ما يأفكون “فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون” ..
((فإن هذا القرآن ما يزال يهدي للتي هي اقوم وإن النول فيه ما برح كثير المذاهب متعدد الجهات متصل الحدود يفضي بعضها إلى بعض، إذ هو كتاب السماء إلى الأرض مستقراً ومستودعاً ، وقد جاء بالأعجاز الأبدي الذي يشهد الدهر ويشهد الدهر عليه
فما كان من جهة من الكلام وفنونه إلا وأنت واجد إليها متوجهاً فيه
وما من عصر إلا وهو مقلب صفحة منه حتى لتنتهي الدنيا عند خاتمته فإذا هي خلاء “من الجنة والناس” ..))
((ولقد أراد الله أن لا تضعف قوة هذا الكتاب وأن لا يكون في أمره على تقادم الزمن خضع أو تطامن فجاءت هذه القوة فيه بأسبابها المختلفة على مقدار ما أرادة وهي قوة الخلود الأرضي التي خرج بها القرآن مخرج الشذوذ الطبيعي فلا سبيل عليه ليد الزمن وحوادثه مما تبليه أو تستجده
إنما هو روح من أمر الله هو نزله وهو يحفظه وقد قال الله سبحانه وتعالى إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون* فلا تحسبن الله مخلف وعد رسله))