رؤية النساء المستقلات لجذور القضية الجنوبية
الأولى-مقدمة من أماني أحمد المأخذي
المقدمة:
سنحاول في هذه الورقة أن نبين جذور القضية الجنوبية وأصل بدايتها ومراحلها المختلفة، لأننا نعتقد أنه لا يمكن فهم هذه القضية وكذلك حلها إلا من خلال معرفة وفهم بدايتها ومسارها التاريخي المتجذر، وسنحرص على أن يكون عرضنا هنا محايداً، ووصفنا مجرداً، وذلك حتى يتسنى لنا التوصل إلى حلول مستقبلية مبنية على أسس تشخيص موضوعية لضمان عدم التكرار.
ولتحديد بداية جذور القضية الجنوبية يجب علينا أن نتفق على نقطة تاريخية، وإن كانت بعيدة، ولكن يجب أن تكون تمثل نقطة البداية لمعاناة ومشاكل الجنوبيين، وهذا التوغل في عمق التاريخ لتحديد بداية جذور القضية الجنوبية ينسجم تماماً مع مصطلح “الجذور”، ولهذا فإننا لا نختلف مع الأوراق التي سبق تقديمها في تحديد نقطة البداية لجذور هذه القضية، وهو العام 1967، لأن ما قبل هذا العام لم تكن هناك دولة واحدة للجنوب كما يعلم الجميع، بل كانت هناك سلطنات ومشيخات تتجاوز في عددها الـ20.
ولهذا فإننا نعتقد أن الصراع بين الجبهة القومية وجبهة التحرير، والذي أفضى إلى خروج جبهة التحرير من المعادلة السياسية، مثل هذا الصراع بداية دورات التداول القسري للسلطة في الجنوب، والذي أسس لثقافة الإقصاء وعدم القبول بالآخر المختلف، ونمت هذه الثقافة وتأصلت في كل منعطفات الصراعات السياسية اللاحقة التي مر بها الجنوب.
هذا ما ساد في مراحل الصراع السياسي في الجنوب منذ الاستقلال وحتى قيام الوحدة 1990، بداية بصراع الجبهة القومية والتحرير وعزل قحطان وفيصل الشعبي، مروراً بمرحلة السبعينيات وتطبيق النهج الاشتراكي والتأميم وغيرها، وبعدها خروج حسين عثمان عشال قائد الجيش، وعبدالله سبعة قائد الأمن العام، وما ترتب عليها، تلاها أحداث سالمين وما ترتب عليها، وتلاها أحداث عبدالفتاح إسماعيل وما ترتب عليها، وتلاها أحداث 13 يناير 86 وما ترتب عليها.
وكل هذه المنعطفات التي مر بها الجنوب طوال هذه المرحلة، مثلت الجذور الحقيقية لمرحلة ما قبل الوحدة، حيث إن ثقافة عدم الاعتراف بالآخر وعدم القبول به كانت السائدة والمتحكمة في سلوك وطريقة إدارة شؤون البلاد لدى حكام الجنوب وإن تغير الأشخاص.
ترتب على هذه الثقافة خسارة الجنوب للآلاف من أبنائه ضحايا هذه الثقافة التي تحكمت في كل صراعات الجنوب؛ آلاف العسكريين، آلاف المدنيين، آلاف القيادات السياسية والكوادر المدنية.
مسار القضية بعد الوحدة اليمنية:
لقد ارتكب الحزب الاشتراكي اليمني خطأ تاريخياً في حق الجنوب عندما قرر الدخول في الوحدة بدون مراجعة تاريخية لما حدث في الجنوب، لأن هذا لو تم لنتج عنه مصالحة وطنية جنوبية شاملة تعالج على إثرها كل ما ترتب على صراعات الماضي في الجنوب، ومن ثم الدخول في مشروع إعادة الوحدة اليمنية.
إلا أن الثقافة التي أشرنا إليها في ما سبق، وهي ثقافة عدم قبول الآخر والإقصاء، كانت المتحكمة في صنع القرار الجنوبي في الحزب الاشتراكي المحاور عن الجنوب في الدولة اليمنية الجديدة (دولة الوحدة).
وكان أبناء الجنوب التواقون للوحدة والمنهكون من صراعات الماضي يأملون بوحدة يمنية تلم شمل الأهل المشردين، وتدخلهم إلى مستقبل أفضل، وكانوا الدعامة التي اتكأ عليها قادة الحزب في اتخاذ قرارهم بالسير في مشروع إعادة توحيد اليمن.
فعندما يشترط قادة الحزب الاشتراكي الموقع على الوحدة عدم دخولهم صنعاء إلا بخروج قيادات جنوبية بعينها من صنعاء، فهذا يؤكد أن ثقافة الإلغاء للآخر وصلت إلى حد التطرف والغلو لممارسة الإذلال مع إخوانهم.
كما أن قادة الحزب الاشتراكي لم يحفظوا للجنوب في دولة الوحدة الوزن اللائق الذي يحفظ للجنوبيين حقوقهم ومكاسبهم، ويعطي للوحدة اليمنية الوليدة أسباب النجاح والاستمرار، بل إنهم فرطوا في الجنوب وأبنائه ومكتسباته، وذهبوا منفردين إلى وحدة اندماجية غير مدروسة، رغم أن الرئيس السابق عرض عليهم عدة خيارات للوحدة، إلا أنهم اختاروا الوحدة الاندماجية.
وحملوا إلى الوحدة كل ملفات الجنوب التي أشرنا إليها، ومظالم أبنائه في كل المنعطفات، ولم يسعوا أو يقوموا بمعالجتها، بل إنهم مارسوا الإقصاء مع كل قيادات وكوادر الجنوب الذين نزحوا قبل الوحدة إلى صنعاء في الجيش والأمن والقطاع المدني. وتكفي الإشارة هنا إلى أن جميع ضباط وجنود وقادة القوات المسلحة والأمن من الجنوبيين الذين نزحوا بعد أحداث 86 وما قبلهم، ظلوا خارج قوام القوات الرسمية لجيش الوحدة تحت مسمى “مجموعة ب”، كما أنه في حكومة الوحدة الائتلافية حينها لم يعطِ الحزب الاشتراكي إخوانهم الجنوبيين أي مقعد حكومي، وتم منح مقعد حكومي من حصة الشمال للفقيد محمد علي هيثم رحمة الله.
عندما انتهت المرحلة الانتقالية وقامت انتخابات 93، لم يحصل الحزب الاشتراكي إلا على مقاعد المحافظات الجنوبية، وأصبح الحزب في الخارطة السياسية الجديدة التي تشكلت بعد هذه الانتخابات في المرتبة الثالث بعد حزب الإصلاح الإسلامي الذي حل ثانياً بعد المؤتمر الشعبي العام، وبعدها دبت الخلافات بين الرئيس ونائبه، ووصلوا إلى وثيقة العهد والاتفاق.
ولكنه لم يكن موفقاً في ذلك وسعى إلى وثيقة ستظل مهما كانت قوتها القانونية دون الدستور، ولهذا فإن التخلي عنها أو الإخلال بها من قبل أي طرف سيكون أسهل من الإخلال بالدستور.
خلصت هذه الأزمة إلى الحرب المشهودة عام 94، والتي سعت فيها قيادة الحزب الاشتراكي إلى العودة بالجنوب إلى ما قبل 90 منفردين دون مشاركة إخوانهم الجنوبيين الآخرين، ولهذا فإن من غير المعقول أن يسمح أبناء الجنوب المخالفين للحزب الاشتراكي بمرور هذا المشروع الذي بموجبه سيظلون مشردين خارج وطنهم الجنوب إذا كتب له النجاح، ولهذا فإنهم في طلائع المتصدين للمشروع الانفصالي، وقاتلوا على مختلف الجبهات، يساندهم دعم جماهيري جنوبي في المحافظات، حتى تم إسقاط هذا المشروع وخروج الحزب الاشتراكي من معادلة الحكم والحياة السياسية.
بعد حرب 94 توحد القرار السياسي، وترك شريك الوحدة الحزب الاشتراكي كل مواقعه القيادية في الدولة على مستوى مختلف الأجهزة العليا والوسطى والدنيا في القطاعين المدني والعسكري، وكان يفترض أن تمكن هذه المواقع المختلفة بجنوبيين آخرين ليتحقق التوازن المطلوب، إلا أن ذلك لم يحدث كما ينبغي، ولم يستطع الجنوبيون المدافعون على الوحدة إحداث التوازن المطلوب، أو لم يتم لهم ذلك.
وبرغم ذلك، فإن عامة الشعب في الجنوب لم يفقدوا الأمل في أن تسود دولة النظام والقانون في العهد الجديد بعد 94، خاصة وأن الرئيس السابق كان في حينها لا زال يحظى بدعم واسع في الجنوب، وقبلوا بقيادته للبلاد للسير بها إلى مستقبل أفضل ومعالجة كل مشاكل الماضي.
ونحن نعتقد أن الفترة من 1994 إلى 2004، هي الفترة الذهبية التي منحت للرئيس السابق، الذي كان بإمكانه نقل الجنوب وبأبنائه واليمن عامة إلى دولة حقيقية يسود فيها النظام والقانون، وكان بإمكانه أن يعالج كل مشاكل الجنوب المتراكمة، وأن يحافظ على ما تحقق من مكاسب للجنوبيين، ولكن للأسف الشديد أن ما حدث خالف في معظمه ما كان يتوقعه الجميع، ويبدو أن الرئيس السابق خضع لمراكز النفوذ والشراكة الشماليين (مشائخ القبائل – القادة العسكريين وغيرهم) الذين تعاملوا مع كل الجنوب من أراضٍ وعقارات وشركات نفطية ومناصب سيادية إيرادية وغيرها، كمغانم، ومارسوا النهب المنظم، وجسدوا ثقافة الاستعلاء على الآخرين، معتقدين أنه لا يمكن أن يرتفع صوت الجنوبيين في يوم من الأيام، لأنهم عبارة عن جماعات متناحرة لا يقبل بعضها بعضاً، ومن الصعب أن يجتمعوا على موقف واحد، وراهنوا على أن الأيام والسنين كفيلة أن تجعل الجنوبيين يتعايشون مع هذه المظالم.
ولكن الإنصاف يجعلنا نقول إن الرئيس السابق بصفته المسؤول الأول عن البلاد يتحمل المسؤولية ولا يُعفى منها حتى وإن سلمنا بأنه خضع لمراكز النفوذ أعلاه، كما أنه لا بد من الإشارة إلى أن الشركاء الجنوبيين بعد حرب 94 يتحملون جزءاً من المسؤولية في ما حدث في الجنوب، حيث إنهم لم يحدثوا التوازن المفترض، ولم يملأوا الفراغ الكبير الذي تركه غياب الحزب الاشتراكي وكوادره في مختلف مواقع الدولة في القطاعين المدني والعسكري، ولم يحرصوا على فتح ملفات ما قبل الوحدة التي أشرنا إليها في ما سبق من هذه الرؤية للنظر فيها ومعالجتها، واكتفوا في ما يبدو بالحفاظ على المكاسب البسيطة التي حصلوا عليها كقيادات، مع تبنّ ومعالجات لبعض المشاكل الصغيرة والفردية في الجنوب.
ويمكن تلخيص فترة ما حدث بعد حرب 94 بأنه سوء إدارة لشؤون البلاد والعباد تم على إثرها تنفيذ أجندة منظمة لاستهداف الجنوبيين وإخراجهم من دائرة الفعل والتأثير في الحياة العامة، وهذا تم من قبل فريق في دائرة صناعة القرار أوصلنا جميعاً إلى ما نحن فيه اليوم.
وحتى لا نغفل عن المرحلة الأخيرة من ذروة تفاعلات القضية الجنوبية، فهي دون شك بدأت من جمعية ردفان بعدن عام 2006، ومن ثم تجمعات المتقاعدين العسكريين بقيادة ناصر النوبة، ورغم محاولات الدولة وضع المعالجات حينها، إلا أن الأمور كانت تتسارع بشكل لم يعد بالإمكان ملاحقته بأي حلول ترقيعية، حيث أصبحت ككرة الثلج تزداد حجماً كلما زاد تدحرجها.
وأصبح من الصعب التنبؤ بأية معالجات ممكنة، خاصة بعد أن تحولت القضية الجنوبية جذرياً إلى قضية سياسية بامتياز، ومثل عام 2007 عاماً مفصلياً في تاريخ القضية الجنوبية من خلال غضب جماهيري ظهر إلى السطح بعد كتمان وأنين لفترات صمت طويلة، واختتم هذا التتويج بالإقرار بالقضية الجنوبية وضرورة حلها الحل العادل من خلال المبادرة الخليجية، التي نحن اليوم نجلس على طاولة الحوار جميعاً لمناقشة هذه القضية بدءاً من جذورها ثم محتواها ثم معالجتها ثم ضمان عدم تكرارها.
الخلاصة:
1) إن دورات الصراع السياسي الجنوبي الجنوبي أفضت إلى ثقافة الإقصاء وإلغاء الآخر، ولا زالت للأسف تتحكم في نهج وسلوكيات بعض النخب القيادية الجنوبية حتى اليوم.
2) إن فتح ملفات الماضي جميعها في الجنوب ومناقشتها بموضوعية وشفافية وصدق الغرض منها أخذ العبرة ليس إلا حتى يتم جبر الضرر وتطييب النفوس وإغلاق ومعالجة كل المشاكل.
3) أن الجميع في الجنوب من القيادات مسؤولون مسؤولية كاملة تشاركيه عن كل ما حدث.
4) إن نظام ما بعد 94، وعلى رأسهم الرئيس السابق وشركاؤه من حزب الإصلاح ومراكز القوى المشيخية والعسكرية، وكذا القيادات الجنوبية المشاركة خلال هذه المرحلة، يتحملون المسؤولية وحدهم عن خاتمة الأمور وما آلت إليه الأوضاع.
5) إن الجميع والمقصود هنا أنا وأنتم جميعاً مسؤولون أيضا، فلنا دور ومشاركة في كل ما حصل في الجنوب من انتهاكات ومظالم، وكذلك ما حصل في صعدة من انتهاكات ومظالم، سواء كنا من شمال أو جنوب الوطن، ومسؤوليتنا تكمن بالصمت وعدم نصرة المظلوم حتى وإن كان بأضعف الوسائل، وهي: الكلمة الصادقة لنصرة المظلومين في الشمال والجنوب.
إذن، الجميع مسؤول عما حدث، وكل بقدره، وعلينا جميعاً تحمل مسؤولية الحلول والمعالجات، لأننا اليوم لسنا بصدد محاسبة أحد أو جهة مما ذكرنا، بل نحن بصدد عرض تاريخي لجذور هذه القضية التي تعتبر القضية الأم لكل قضايا اليمن، والتي بحلها ستحل مشاكل اليمن كافة بإذن الله تعالى، وبجهود الجميع.
نأمل أن نكون قد وفقنا في ما عرضناه
ورعى الله اليمن وأهله وأبعد عنه كل مكروه
ونرجو المعذرة إذا سهونا أو أخطأنا
والله من وراء القصد
4/5/2013