كتابات

السبع المتاهات

د.محمد بن موسى العامري
رئيس الهيئة العليا لاتحاد الرشاد اليمني

توطئة :-

المتاهة أو التيه إحدى العقوبات على بني إسرائيل في قوله {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} يعني أرض سيناء تاهوا فلم يستطيعوا الخروج منها رغم إيمانهم ووجود نبي الله موسى بين أظهرهم وسبب ذلك تقاعسهم وتخاذلهم عن جهاد الجبابرة في الأرض المقدسة – فلسطين – وهي عقوبة قد تتكرر في أي أمة متى ما نكصت وتخلت عن واجباتها ومسؤلياتها كضريبة للضعف والوهن المفضي إلى سبيل التوهان في معالجة الفتن والتعاطي مع الأزمات.
وقد نزل بنا كيمنيين جملة من الأخطار المدلهمة وفي مقدمتها الخطر الإيراني – عبر ذيله اليمني – مليشيا الحوثي الإرهابية – والتي بات من آكد الأولويات توجه الجميع، وتوحيد القوى بمختلف توجهاتها إلى التخلص من ويلات هذه الفئة وكبح شرورها وفسادها وإنقاذ اليمنيين من سعيرها، وفق رؤية وطنية شاملة وعملية إنقاذ موحدة يشترك فيها الجميع بعيداً عن سبل المتاهات التي منحت المجرمين مزيداً من الوقت لإطالة الحروب والمعاناة البائسة، وهنا سبع وقفات مع هذه المتاهات:

الأولى: متاهة التعايش :-

يرى دعاة التعايش مع مليشيا الحوثي إمكانية القبول بالتعايش والتوصل معها إلى حلول سياسية تفضي إلى وأد فتنتهم بطريقة التفاهمات الحوارية، وأنصار هذه المتاهة صنفان؛
الأول: فقراء المعرفة
الجاهلون بالجذور الفكرية والعقائدية لمليشيا الحوثي، كمنطلقات ولوازم الولاية الجارودية والعنصرية السلالية، مضافاً إلى ذلك تأثرهم وارتباطهم بالفكر الجعفري، الإثني عشري المدعوم بالثورة الخمينية، فالحوثيون – عند فقراء المعرفة – مجموعة مسلحة طامحة للحكم كغيرها من جماعات العنف الساعية لفرض أجندتها بقوة السلاح ومتى ما تحقق مبتغاها أصبحت في حكم فئة التغلب ! بينما هم في حقيقتهم أعمق من مجرد طلاب سلطة إذ تمثل حركتهم ذراعاً صفوياً فارسياً عابراً للحدود خارجاً عن سياق السيادة الوطنية، ومفارقاً لمنهج الإسلام المعرفي الذي عليه عامة الشعب اليمني ومساراً قائماً على الاستعلاء العنصري السلالي.
الثاني: فقراء القيم
وهؤلاء في مجملهم غير مكترثين بركائز القيم الدينية والإنسانية القائمة على العدل والشورى والحرية والمواطنة المتساوية ومواجهة الظلم والطغيان والاستبداد، ولديهم الاستعداد لقبول العيش المهين تحت طغيان وسطوة مليشيا الحوثي في عموم الحالات وإن قامت على ساق الرق والإذلال والجور والإجحاف والمواطنة المنقوصة واستلاب كرامة المواطن اليمني.

الثانية: متاهة تجزئة الحل

ليست مليشيا الحوثي ومشروعها المدعوم إيرانياً كارثة على المستوى الوطني فحسب، بل الأمر يتجاوز ذلك إلى مخاطر تهدد الأمن والسلم الإقليمي والدولي، ومن قصور النظر اعتبارهم بليّة يمنية، ناهيك عن توهم حصر فتنتهم في جغرافيا شمال اليمن – الهضبة العليا – وبناء على هذه التقديرات الخاطئة يعمل أنصار متاهة التجزئة ظانين السلامة من جحيمهم واتقاء فتنتهم بالوصول معهم الى سلام ثنائي على قاعدة التجزئة والتشطير بين شمال اليمن وجنوبه وعلى درب هذه المتاهة المفخخة يكون الانشغال بجغرافيا الجنوب هو الغنيمة الباردة ! – حسب توقعهم – ويزيد الأمر سواءً وقتامة صدور إيحاءات من لدن جهات كيدية باليمن ومحيطه وجيرانه لزيادة التضليل عن شبح الثورة الخمينية وأطماعها التوسعية.

الثالثة: متاهة الحياد

واختار فريق متاهة الحياد، ورصد التحولات والتقلبات في اليمن، ومنذ تمرد الحوثيين، وهم يترقبون انسداد الآفاق على مواقف الحياد والبقاء في المناطق الرمادية، رغم إقرارهم بخطورة المليشيا الحوثية على الشعب اليمني، لكنهم على طريقة بعض الأعراب قديماً { يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ ۖ}، وهؤلاء يظنون أنهم في نهاية الصراع سيكونون الملاذ المقبول دولياً وإقليمياً وإليهم المنتهى والمفزع، فلذلك يقبعون في زوايا الظلام مبتعدين عن الأضواء حتى يهتدي الناس إليهم ويجمعوا على حكمتهم وصوابية مسارهم حسب زعمهم ! وغاب عن هؤلاء أن القضايا الوطنية والأحداث المفصلية غير قابلة للمساحات المعتمة، والمراوغات المتلونة وأن طغيان حظوظ النفس ومصالحها الشخصية لا يجوز أن تتضخم بهذه النرجسية التي توحي بعدم المبالاة بحياة الناس ومعاناتهم، وتشير إلى إفلاس قيمي وأخلاقي بغية الوصول إلى مطامع ضريبتها لزوم الصمت حين يتوجب الكلام، وخنوس الضمير وخمول الروح الوطنية والمصالح العليا حين يتحتم القيام بالمسؤلية الدينية والوطنية.

الرابعة: متاهة الأدوات الناعمة:-

وسلك فئام متاهات الحلول بالأدوات الناعمة، التي تقدم نفسها كقوى ومنظمات مدنية حديثة عبر أجندات تسوق لنفسها في العواصم الغربية على أنها شعلة النور في الظلام الحوثيراني ومن خلال التلبس بالقيم التغريبية وموجات الالحاد والتفسخ الأخلاقي، والتحلل من القيم والقيود الدينية والإجتماعية تراهن على وقوف وإسناد العالم الغربي ! لجعلهم شوكة الترجيح في اليمن، ولاينفك هؤلاء بين حين وآخر من الترويج لأنفسهم، عبر مؤتمرات وفعاليات بأنهم ضد التطرف والغلو المليشاوي الحوثي وعلى طريقهم – وبخلط متعمد – يحاربون المفاهيم الدينية والقيمية الوسطية للشعب اليمني، ولو كانت قائمة على الكتاب والسنة والإجماع، معتقدين أن هذا الطريق أخصرها إلى التسلق والوصول إلى صناعة القرار من البوابة الغربية.
وغفلة هؤلاء الكبرى ومتاهتهم تتمثل في جهلهم بالأجندة الغربية وأنها المتحكمة في جميع أدوات اللعبة في المشهد اليمني وهم أهل الخفض والرفع يخفضون من يشاؤن ويرفعون من يشاؤون، ومن متاهتهم أيضاً جهلهم بطريقة التفكير الغربية السياسية وأنها براغماتية وليست قيمية وفق مفرداتهم للقيم ، فإذا كانت مصالحهم تتحق مع الاستبداد والطغيان ومساندة كهنوت مران فلن يترددوا في الوقوف مع هذا الخيار ولن يكون خيارهم المفضل حينها منظمات وأدوات الكيوت الناعمة ، ولذلك تجارب كثيرة توحي بتقلبات السياسية الغربية من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين وفق حساباتهم .
ومن سذاجة وبلاهة أنصار متاهة الأدوات الناعمة جهلهم بتركيبة الشعب اليمني فيقدمون للحوثي من الخدمات ما يعجز عنه، فالشعب اليمني من حيث الجملة مؤمن، محافظ، ومتدين بفطرته، ومن الصعوبة بمكان أن يتقبل موجات الإلحاد والانحلال الأخلاقي والتوجهات المنفلته من القيود الدينية والأخلاقية والاجتماعية، ومثل هذه المتاهات لا فائدة منها إلا مضاعفة رصيد مليشيا الحوثي وتقديمهم منافحين عن القيم والأخلاق بينما هم في الواقع بضد ذلك، يتاجرون بالدين كما يتاجرون بقضايا فلسطين.

الخامسة: متاهة العجز والجبر
وقديماً قيل:
ولم أرَ في عيوب الناس عيباً
كعجز القادرين على التمام
وصنف من المتصدرين للمشهد اليمني وهم الأكثر حضوراً فيه والأكثر نفوذاً في مواجهة مليشيا التمرد الحوثي إلا أن آفتهم عقيدة الجبر العجز والتسليم الجبري للمقادير تتصرف كيف ما تشاء وظهور هذا العجز لم يعد خافياً في الاحجام عن العمل وفق قانون المبادرات، واقتناص الفرص، وتجميع الجهود، وإعداد العدة والطاقات ولو قيل لهم كما قيل لبني إسرائيل { ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ } لكان الجواب نفسه: { وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ }، وغالباً ما ينتظرون لمن يحركهم ويدفع بهم ويؤزهم ويحملهم على النهوض حملاً وإن حُملوا أمانة الشعب ظهر عوارهم وبدا ضعفهم وارتباكهم، وخلافاتهم البينية والشخصية تتجدد ولا تنتهي والعمل بروح الفريق لديهم يكاد يتغيب لكثرة اضطرابهم وتشاكسهم، على المصالح الخاصة ولدى بعضهم سعار محموم على الدرجات الوظيفية، وقوائمهم التي لا تنتهي كلما اجتمعوا تفرقوا وحاجتهم إلى الرعاية أشد من حاجة الرعية لهم، ومن قوانين وعوامل النصر في المحطات المفصلية لحياة الشعوب وحدة القيادة { ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ } { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ}، ومن المحال انتظام الأمر بتنافر الإرادات وتعدد الرؤوس وتعويم الصلاحيات والمسؤليات ولا يستقيم وضع رفقة في سفر ثلاثة فما فوق إلا بطاعة أميرهم فكيف الحال إن تعلق الأمر بدولة ونظام بتعدد الرؤوس ومصادر التوجيه، وهذه بدهية ومعلومة وما سواها من التخبطات من أسوأ أنواع التيه والمتاهات.

السادسة: متاهة النعرات :-

المشروع الحوثي قائم على مفردات النعرات والعصبيات وإحيائها، ويرى أنّ خلق طبقيات في المجتمع وفوارق اجتماعية مصطنعه هي الأرضية الخصبة التي تمده بالتمدد والتغول في المجتمع اليمني، وكل ذلك السلوك منافٍ لمنطق الإسلام العدل القائم على مبدأ { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فالإسلام ومثله المجتمعات البشرية السوية لا يمكن القبول فيها بمنطق الاستعلاء القبلي أو السلالي، وقد يلجأ الناس إلى قوميتهم وعصبياتهم في مواجهة العصبيات التي تتعالى عليهم وتزدريهم وهذا القدر إلى هنا مقبول لدفع غرور وشطحات من يريد بناء مجده على أنقاض أمجاد الآخرين وكرامتهم، ويبقى القدر المذموم والذي يمكن اعتباره من جمله المتاهات في تلمس الخلاص والمخرج من فتنة الحوثي يتمثل في تجاوز هذا السلوك لمعاني القسط والعدل الذي أمر الله به وتحوله إلى منطق جاهلي، يساوى فيه البرئ بالمجرم ويعاقب الناس أو يذمون على جهاتهم وقبائلهم أو أنسابهم التي لم ينالوها باكتسابهم واختيارهم فيتحول الأمر إلى شعار جاهلي “ألا لايجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا”! والعصبيات المقيتة بجميع أشكالها ليست من العدل ولا من الإسلام والفطرة في شي سواء كانت قبلية، أو سلالية، أو مناطقية، أو عرقية، أو مذهبية، فالباطل يواجه بالحق لا بباطل مثله والبدعة تواجه بالسنة لا ببدعة من جنسها والضلال بالهدى والجهل بالعلم والظلم بالعدل وهكذا

السابعة: متاهة المجتمع الدولي:-

متاهة انتظار الفرج من المجتمع الدولي تعني التعلق بالسراب، وبناء بيت أوهى من بيوت العنكبوت، والتعويل على أكثر من بقاء المجتمع الدولي معترفاً بالحكومة الشرعية أمر بعيد المنال، وقرارت مجلس الأمن أو الأمم المتحدة قرارت انتقائية، وفيها من تشابك مصالح الدول ذات العلاقة بالأجندات ما يجعل الترقب للانقاذ من جهتها من جنس الأوهام والخيالات.
ولكن ذلك لا يعني التفريط بالمواقف الدولية وإهمال تعاطفها وهذه مهمة الدبلوماسية اليمنية، فالمجتمع الدولي وتصنيف بعض دوله للحوثيين كمنظمة إرهابية بلاشك مكسب سياسي يتطلب البناء على ذلك؛ إذ إن المعركة ذات أبعاد عسكرية واقتصادية وسياسية، فهو أمر مساند ومساعد لكن ذلك لن يرد لليمنين دولتهم، ولن يتحرك الضمير العالمي لرفع معاناتنا وتعاستنا كما لم يفعل ذلك في عموم قضايا المسلمين كما نرى في فلسطين غزة وغيرها ، وربما تحول المزاج الدولي وتراجعت المواقف الدولية إذا لم تستثمر العلاقات في مواصلة السير والتعاطي الإيجابي مع المجتمع الدولي ، واختيار الدبلوماسية ذات الكفاءة أمر في غاية الأهمية في هذه الظروف.
ختاماً:

إن معرفتنا لهذه المتاهات منارات على الخطوات الأولى في المسار الصحيح وأهمها وهو ما يراه كثيرون من مختلف الطيف اليمني أن مليشيا الحوثي ومن خلال تجارب كثيرة لا يمكنها أن تجنح للسلام نظراً لتطرفها المذهبي الطائفي الذي فارقت به عموم الشعب اليمني وتشبعت فيه بعقيدتها المنحرفة القائمة على مفاهيم الاصطفاء والاختيار الالهي واختصاصها بحكم اليمنيين وتفردها بمصير الشعب ليكون البقية سخرة لهم وأتباعاً وفوق ذلك رهنت قرارها للولي الفقيه القابع في بلاط طهران وانسلخت من محيطها الإقليمي والعربي.
وغني عن البيان أن مشروع إيران في المنطقة والإقليم ذو أطماع توسعية ليس فقط في السيطرة على الجغرافيا اليمنية شمالها وجنوبها بل لتحويل اليمن إلى محطة للصراع والتوسع وجعلها منصة وقاعدة لتهديد الجيران والإقليم والملاحة الدولية وبوابة للقرن الإفريقي، فالتعويل على انكفاء المشروع الحوثي الإيراني بهضبة شمال اليمن تعلق بالأوهام ومتاهة في الحلول وضعف في القراءة الإستراتيجية الايرانية ومشروعها الصفوي وقد بدى ذلك جلياً عندما قامت مليشيا الحوثي بغزو الجنوب في أوج اندفاعها بداية تمردها حتى وصلت الى بحر العرب قعر عدن ضاربة بعرض الحائط جميع التطمينات التي كانت تخدر بها كثيراً من النخب السياسية في جنوب اليمن الطامحة إلى تحقيق مشروع فك الارتباط وفصل جنوب اليمن عن شماله، وخلاصة الخلاصة تتمثل في استعانة اليمنيين بالله أولاً ثم بأشقائهم وجيرانهم الذين يشتركون معهم في وحدة الهدف والمصير ويساندونهم في هذه الرزية منذ نشوئها واشتعال نيرانها ولولا لطف الله ثم مساندة الأشقاء في التحالف العربي ، وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية لكانت اليمن اليوم بكامل ترابها في قبضة المشروع الصفوي الإيراني، هذه حقيقة يجب أن تذكر، ولأهلها تشكر ، في خضم البحث عن الحلول وتجنب المتاهات.

اللهم اهدنا في من هديت

زر الذهاب إلى الأعلى