رؤية الحزب الاشتراكي اليمني لجذور القضية الجنوبية
مقدمة:
الأحداث والوقائع السياسية والتاريخية التي شكلت القضية الجنوبية جذوراً ومحتوى، هي من نوع الأحداث “والوقائع الممتلكة للمعنى”، ولا تكون كذلك إلا ضمن سياق يجمعها مع أحداث أخرى ذات طابع مفصلي تتشكل منها وتتبادل التأثير فيما بينها كعناصر مترابطة يعتمد بعضها على بعض، وفي هذا الصدد فإن السياقات السياسية والتاريخية والتي عبرت خلالها القضية الجنوبية عن نفسها تتمثل في الوحدة اليمنية والطريقة التي تمت بها الوحدة وأسلوب إدارتها من ناحية، والأسباب والعوامل التي أدت إلى ظهور الحراك السياسي السلمي الجنوبي وقد تولد عن الأوضاع المتردية التي آلت إليها أحوال الشعب في الجنوب بعد حرب صيف 1994 واكتسب هويته السياسية من كونه الحركة الشعبية التي وضعت القضية الجنوبية على طاولة البحث والنقاش، بعيداً عن أية أوهام إيديولوجية، تتعلق بالوحدة اليمنية من ناحية أخرى.
كما ارتبطت القضية الجنوبية كذلك، بطبيعة السلطة التي استولت على زمام الأمور وسيطرت على مقدرات البلاد منذ 1994/7/7 وهي سلطة استبدادية تقليدية لا تقبل الحلول السياسية والتفاوضية والتسويات والتنازلات المتبادلة وتفضل الحلول العسكرية والأمنية، إلى جانب محاسيبيتها من حيث تفضيلها لقوى موالية على قوى أخرى غير موالية – إضافة إلى أصداء تطورات الثورة الشبابية الشعبية ضد السلطة الاستبدادية والتي انفجرت في العام 2011.
إن الجدل الذي يدور اليوم حول القضية الجنوبية وتأويل بداياتها إلى خارج الزمن الذي نشأت فيه، يبتعد تماماً عن النقاشات الواقعية بشأنها، وذلك لأن خلط الأوراق التاريخية بالأوراق السياسية، لن يؤدي إلا إلى حجب الصورة الحقيقية للأوضاع الراهنة، فكيف يمكن لأحداث كانت قبل أحداث تاريخية جاءت من بعدها وصارت فاصلاً بين زمنين أن تتفاعل مع قضايا سياسية حيوية تؤثر على الواقع اليوم، فحركة التاريخ هي زمان لا يمكن استعادته من أجل تصحيح مساره بأثر رجعي، حيث لا يمكن الاتكاء على عناصر لحظة غائبة لا وجود فعلي لها في الحاضر، فالسياسة في الماضي هي التاريخ اليوم، وسياسات اليوم سوف تغدو تاريخاً غداً، وعلى ذلك فإننا نرى:
1- إن الحوار السياسي داخل هذا الفريق يجب أن لا ينزلق إلى مجرد مناظرة فكرية أو ندوة سياسية لا تنتج فعلاً ولا تحقق نتائج (كما يشير مراراً إلى ذلك الأخ خالد بامدهف) بل يجب للحوار أن يكون محدداً بالظروف السياسية ومعطياتها المادية المجسدة في الواقع بعيداً عن خدمة سياسات احترافية تتواجد خارج استراتيجية محددة وتبقى محصورة في حدود مصالح فئوية أو شخصية، مغلقه على أصحابها فقط.
2- أن نتجنب السفسطة في النظر إلى الأحداث بعيداً عن سياقاتها، أو استعارة وعي راهن بمفاهيم مستجدة ومعاصرة لتطبيقها على أوضاع فترة تاريخية سابقة.
3- أن نعمل على بلورة مواقف فكرية وسياسية موضوعية لمواجهة التحديات وإنتاج الحلول لتفكيك العقد والقضاء على المشكلات.
إن أسوأ أنواع المواقف أو القرارات، تلك التي تصدر عن تفكير رغبوي يداهن المرء بها ذاته وينافقها، فيبتعد عن التقييم الرصين والمتزن لموضوعاتها، وفي هذا الصدد نميل دائماً إلى الرؤى الفكرية السياسية التي نتيح مساحة من النقد الذاتي في قراءتها، إذ ليس من أحداث مجتمعية تحدث من دون أن يكون وراءها فاعل ما، أو صانع لها، ناهيك عن أن تكون تلك الأحداث سياسية ذات تأثيرات واسعة على حياة الناس والأوطان والشعوب، فيتوجب على هذا تحديد المسؤول عنها من منطلقات العدالة والأخلاق الإنسانية.
إننا ونحن نؤكد على هذا النوع من النقد اخترنا المنزلة بين المنزلتين في هذا الحوار بيننا والمبينتين في الآيتين القرآنيتين الكريمتين: “لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم”، ونعتقد أننا ظلمنا في مجريات هذا التاريخ الذي نقف أمامه اليوم لنتأمل في بعض جزئياته ثم “وجادلهم بالتي هي أحسن”. وفي هذا الصدد اسمحوا لنا أن نشير إلى عدد من الحقائق الذاتية لا الموضوعية التي تصنع التعقيدات في الحياة السياسية في بلادنا وتكون صادرة من الأحزاب والقوى والشخصيات السياسية وخاصة المتنفذة منها، والتي شكلت الاصطفاف السياسي الذي فجر الحرب في العام 1994م عندما يتعلق الآمر بتحديد مواقفها من القضية الجنوبية.
1- دائماً ما تساور هذه القوى الهواجس بشأن مسؤولياتها في المشاركة في صناعة حرب 1994م والنتائج التي أسفرت عنها.
2- إن مواقفهم تجاه مشكلات القضية الجنوبية تتخذ دوماً مسلكاً وحيداً، هو ترجيح أو تعطيل أو فرض قرارات أو قواعد أو ترتيبات، بالمقاربة مع مصالحهم الاقتصادية المكتسبة من نتائج حرب 1994، كان ذلك في الجنوب أو في الشمال.
3- في مقاربتها الفكرية التبريرية لسياستها الحاكمة تعمل على تأكيد التوجهات الايديولوجية المستنتجة من رؤى لا وجود لها بشأن المكانة التاريخية للشمال تجاه الجنوب، وتحويلها إلى شروط تبني عليها علاقة رأسية تراتبية، يتبين فيه الجنوب ملحقاً بالشمال مستضعفاً بحسب التوصيفات (الأصل – الفرع)، (الأم – البنت) أو أن العلاقة بينهما أشبه ما تكون بزواج كاثوليكي ليس فيه طلاق والعصمة هنا طبعاً بيد الشمال.
4- النظرة التبسيطية والاختزالية لتعقيدات تطور هوية الجنوب اليمنية وعزلها عن مجمل معطيات مراحل التاريخ السياسي الوطني للجنوب المعاصر في سياق النضال ضد الاستعمار من أجل تحرره واستقلاله ووحدته. ومازلنا حتى اليوم نشهد بأن الصراع على هوية الجنوب وكأنه لم يحسم بعد وكان هذا أيضا من نتائج حرب 1994 (سنتوسع في تناول هذا البعد في القضية الجنوبية عندما نقدم رؤيتنا حول محتوى القضية).
وعلى ذلك فإننا في الحزب الاشتراكي اليمني نؤكد على من يهمهم الأمر ويعنيهم (أصحاب النقاط الأربع سالفة الذكر) أن يقوموا بنقد أنفسهم وتصحيح رؤاهم المؤسسة على المرتكزات الأربعة المشار إليها، وفي هذا الشأن يرى الحزب الاشتراكي اليمني، بأن المعايير الناجعة والملموسة لنقد الذات والوقوف أمام النفس، تتجلى في واقع الممارسة محققة للفائدة خلال استراتيجية هادفة تؤدي إلى مراجعة السياسات التي يمكن لها أن تؤثر على المستقبل، ولن نستطيع جميعنا التمكن من ذلك إلا إذا أوجدنا للنقد ومخرجاته النظرية، علاقة عضوية بمؤسسة تستطيع أن تُفَّعل النقد وتَحوله إلى محاسبة نزيهة للضمائر والنفوس، ولعلنا نشير بهذا إلى أن يكون المؤتمر الوطني الشامل هو المؤسسة المْرجوَّة.
إننا في الحزب الاشتراكي اليمني وإذ ندعو الأحزاب والقوى السياسية المختلفة، إلى فعْل النقد للذات، فقد فعلناه نحن سابقاً، وقد أصدر الحزب خلال العقدين السابقين اعتذاراً موجهاً إلى الشعب خلال نقد ضاف لتجاربه السياسية النظرية، وتطبيقاتها على الواقع، والنتائج التي ترتبت عنها إيجابية كانت أم سلبية في وثيقة نقدية تحليلية، وقف أمامها مندوبو منظمات الحزب بالمحافظات في الدورة الأولى للمؤتمر العام الرابع المنعقد في الربع الأخير من العام 1999. إننا قمنا بذلك إكباراً للشعب اليمني كله وإجلالاً لصبر الشعب في الجنوب، وأي صبر.
جذور الجذور
قبل احديث عن الجذور ووفقاً لمنهج هذه الرؤية، التي أوضحناها في المقدمة فإن القضية الجنوبية وتطور أحداثها، وإذ هي ذات ارتباط وثيق ومتشابك بالوحدة اليمنية في صورتها الحالية، من بعد حرب صيف 1994 بعد إفراغها من مضمونها السلمي والنَّدي بين الشمال والجنوب، فثمة أرضية غرست فيها بذور تلك الجذور نود هنا الإشارة إليها بحكم الضرورة، وتتكون هذه من الوقائع التالية وما انطوت عليه من أحداث وممارسات في حينه:
1- الطريقة الاستعجالية في تحقيق الوحدة وإعلان الجمهورية اليمنية، قبل القيام بإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية كان يجب تحقيقها بالملموس في داخل كل من الدولتين على حده وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بالوحدة الوطنية وقد تمزق نسيجها الداخلي بفعل الصراعات السياسية والتي أنتجت الإقصاء والتهميش لقوى سياسية واجتماعية معارضة داخل كل شطر، ما أدى إلى النزوح المتبادل من وإلى إحدى الدولتين السابقتين، ليكون واقع الوحدة خالياً من جملة العناصر على المستويين الذاتي والموضوعي التي يمكن لها أن تصنع الأزمات السياسية والاقتصادية وتؤدي إلى فشل الوحدة.
2- عند إعداد الوثائق والأدبيات التأسيسية للوحدة وقيام الجمهورية اليمنية، تم التركيز فيها على البحث والتأكيد على التجانس فقط ولم يتم التفكير مطلقاً في الفوارق بين مجتمعي الدولتين في حينه، وكان يجب إعطاؤها حيزاً مناسباً للعناية بها وجعلها من أبرز مهام المرحلة الانتقالية من أجل تسويتها إضافة إلى أن اتفاقية الوحدة لم تتضمن نقاط القوة لدى الجنوب ومزاياه الجيواستراتيجية والسياسية وما كان لمواطنيه من مزايا حقوقية.
3- وأخذاً في الاعتبار، لما جاء في النقاط المذكورة في أعلاه فقد تمت الوحدة بين الجنوب والذي كان سلمه القيمي يتمثل بالشعور بالهمّ العام والتلاحم من أجل القضايا الكبرى وكان أن بنيت تلك على التنمية البشرية ونهج التطور الحضاري والروح الاستقلالية، وبين الشمال مع النخبة السياسية الحاكمة فيه وكان الشعب اليمني في الشمال حينذاك معزولاً تمارس ضد قواه الاجتماعية المعبرة عن مصالحها سياسياً في الأحزاب السياسية الوطنية الديمقراطية التي كانت تمثل المعارضة السياسية في ظل تحريم الحزبية والقمع الأمني في الشمال. بينما كان السلم القيمي لتلك النخبة السياسية المتنفذة والحاكمة ضاجا ومشحونا بمفاهيم الكسب والتربح وتفتيت القضايا الكبرى والتفكير بالثراء بدون جهود تمارس ومن دون أية ضوابط أخلاقية، فكانت الفجوة بين طرفي الوحدة كبيرة ومائلة بوضوح للعيان من أول لحظة.
الجذور
تعود جذور القضية الجنوبية، إلى اللحظة التي تم فيها اتخاذ القرار من قبل القوى السياسية والاجتماعية التقليدية المتنفذة في الشمال والتي كانت ممثلة بخليط من التحالف القبلي العسكري الجهادي الإسلاموي السلطوي باجتياح الجنوب واستباحته، وتصميم وتجهيز متطلبات هذا الاجتياح والإعداد للحرب التي أعلن عنها يوم 27 أبريل 1994 في الخطاب المشئوم الذي ألقي في ميدان السبعين في العاصمة صنعاء، إن استعادة مشهد المنصة الاحتفالية في ذلك اليوم كفيل بالإفصاح عن مهندسي ومصممي حرب صيف 1994، والتي كان الهدف من ورائها، الإلغاء التام والكلي للوجود السياسي للجنوب وإنهاء شراكته الوطنية الندية، وتحجيم موقعه ومكانته وتقزيم حضوره في الجمهورية اليمنية.
وكان التحالف السياسي الذي شكل سلطة 7 يوليو بأطرافه العسكرية والتقليدية والدينية والمناطقية، ومنذ العام 1993 وحتى انفجار التظاهرات الشعبية والاعتصامات الجماهيرية في الجنوب وبروز الحراك السلمي السياسي قام بالخطوات والأعمال التالية التي شكلت جذور القضية الجنوبية، أستعرضها أمامكم في ثلاث عناوين رئيسية:
1- إقصاء الحزب الاشتراكي اليمني من موقع الشراكة السياسية والوطنية ممثلاً عن الجنوب.
2- تدمير كل مقدرات دولة ج. ي. د. ش، في الجنوب.
3- تفكيك البنية الوطنية للجنوبيين.
1- إقصاء الحزب الاشتراكي اليمني:
كان الهدف السياسي الرئيسي من إقصاء الحزب الاشتراكي اليمني إلغاء اتفاقيات الوحدة والتنصل عنها وإبعاد طرف سياسي يمثل الجنوب من ناحية وبشكل الحامل الوطني لمشروع الدولة اليمنية المدنية الحديثة من ناحية أخرى، وتكتلت مجموع تلك القوى السياسية والاجتماعية الرافضة للمشروع الوطني الحداثي وبناء الدولة المدنية، ضده، وعملت على محاصرته بأفعال عنفية مادية ولفظية بدءاً بمحاولات اغتيال قادته واغتيال العشرات من كوادره المدنية والعسكرية والسياسية في الشمال والجنوب. وتسخير الإعلام الرسمي ومنابر المساجد وأشرطة الكاسيت والمطبوعات الورقية في هجومات دعائية تعبوية متواصلة بما في ذلك في صفوف الجنود والضباط والعسكريين داخل المعسكرات المنتشرة في أرجاء الشمال طالت موادها كذلك الشعب في الجنوب بصيغ تضمنت الإساءة إلى أخلاقياته بهدف تشويه سمعة النظام السياسي الاشتراكي في الجنوب وتلطيخ تاريخه بالسواد باستخدام كم هائل وضخم من الأكاذيب والاختلافات ومفارقة الحقيقة والاتهامات الباطلة. ولم يدركوا خلال حماستهم التي نفذوا بها مخططاتهم أنهم كانوا يقومون من حيث يدرون أو لا يدرون بتقسيم البلاد رأسيا فوضعوا الشمال في مواجهة الجنوب وأسسوا الخطوة الأولى نحو تكريس الشعور بالانفصال في النفوس وبلا جدوى الوحدة في الوعي لدى الجنوبيين.
2- تصفية الإرث المادي والمعنوي للوجود السياسي للجنوب:
إن الإطاحة بالحزب الاشتراكي اليمني عن موقع الشراكة في السلطة لم يكن ليفي وحده بتحقيق الهدف الرئيسي من الحرب الموجهة إلى الجنوب لإلغاء وجوده السياسي وكان لابد من استكمال هذا المشروع بتدمير الإرث السياسي والمعنوي والمؤسسي للدولة في الجنوب وتخريب تراثها السياسي والإداري ونظامها المالي والقانوني والقضائي، والعمل على التخلص من المؤسسات الاقتصادية والقطاع العام من خلال عمليات ممنهجة لحساب المتنفذين العسكريين والسياسيين والزعامات والوجاهات القبلية كما صودرت لصالح هؤلاء مزارع الدولة والتعاونيات الزراعية والخدمية وكانت هي عماد الجنوبيين في حياتهم المعيشية. وفي تلك السياقات تم القذف بعشرات الآلاف من العمال والموظفين والكوادر الإدارية إلى سوق البطالة إضافة إلى تسريح ومقاعدة عشرات الآلاف آخرين من العسكريين العاملين في القوات المسلحة والأمن والشرطة ضباطا وجنوداً وتم وضعهم خارج نطاق العمل بحد أدنى من الحقوق وبعيداً عن مواد الدستور والقوانين والأنظمة الإدارية.
3- تفكيك البنية الوطنية للجنوب:
إن تفكيك البنية الوطنية المعاصرة للجنوبيين ظلت المهمة الرئيسية لسلطة 7يوليو وتحالفاتها السياسية التقليدية القبلية والدينية وكان الهدف الأول لها على هذا الصعيد طمس الهوية الحضارية للجنوب بمعنى ضرب كل تواصلاته مع العصر الحضاري الراهن ومضمونه “الحداثة” وكان الهدم يطال كل منجزاته المادية والمعنوية ذات الصلة بالحداثة، فعملوا بداية على تبديل مواقع ومكانة الطبقات والفئات الاجتماعية الحديثة من خلال وضعها في المرتبة الدنيا من بعد إفقارها بأساليب متنوعة من ضمنها تلك الممارسات التي أوضحناها في الفقرة السابقة فيما يتعلق بتدمير الدولة ومؤسساتها وتسريح العاملين فيها ومقاعدتهم قسراً عسكريين ومدنيين إضافة إلى العمل بشتى الوسائل لإعادة إنتاج المجتمع القديم، بتمكين رموزه التقليدية من بعض المقدرات الاقتصادية للجنوب تحت يافطات براقة وشعاراتية بشأن تصحيح الأخطاء والمظالم الناتجة عن قرارات التأميم الاقتصادية والعقارية. وكان هذا الأسلوب يتم في سياقات عديدة لتشكيل قاعدة زبائنية لهم في الجنوب تتبع المراكز العليا للسلطة من أجل تسخيرهم لتنفيذ مهام خاصة ذات أبعاد سياسية صراعية وعصبوية ولتفكيك المجتمع في أرياف الجنوب والقيام بزعزعة أوضاعه واستقراره بمحاولات تفجير النزاعات والثارات القديمة، وتشجيع الانتقام السياسي باستخدام الوسائل والأساليب ذات الطابع الإرهابي، وتهيئة الظروف المناسبة لتطبيق هذه السياسة من خلال تفريغ المديريات باستثناء عواصم المحافظات من الوجود الإداري والأمني النظاميين وتغييب جُلّْ الأشكال المعبرة عن حضور الدولة، وتعميم ظاهرة انتشار وحمل السلاح والترويج له بصورة منتظمة في محافظات الجنوب كافة وإتاحة الفرص لانتشار الأعمال المافياوية وطابعها اللاأخلاقي. أما التوجه الثاني على هذا الصعيد كان إلغاء مناهج التربية والتعليم ذات الطابع الحداثي من مجموع المقررات الدراسية وتعميم المواقف والأخلاق السلبية تجاه المرأة ودورها في المجتمع وإلغاء المكتسبات الإنسانية التي نالتها المرأة في النظام السياسي السابق في الجنوب.
كما اتخذت سلطة 7 يوليو الإجراءات العملية كافة والتي تضمن لها تفكيك البنية الوطنية للجنوب بما في ذلك قولبة الأوضاع السياسية والاجتماعية والمعيشية بما يتناسب وعقلية وهيمنة السلطة على الجنوب بقبضة حديدية وفي هذا الصدد أمعنت السلطة في الممارسة الممنهجة لتحويل المواطنين في الجنوب إلى رعايا وتوابع واتخذت في سبيل ذلك أربعة أساليب عمليه:
الأول: زرع الروح الانهزامية لدى الجنوبيين وزعزعة الثقة بأنفسهم من خلال إهانه تراثهم النضالي وتحقير رموزهم النضالية والسياسية عمداً وانتزعت المعالم التاريخية المجسدة لوجودهم السياسي والمميزة لشخصيتهم الوطنية في إطار مشاركتهم في الوحدة اليمنية..
الثاني: فرض المنظومة السياسية والاجتماعية والتقليدية التراتبية للجمهورية العربية اليمنية في الحياة اليومية في الجنوب بتعميم ثقافة المنتصر الاستعلائية وعقليته السياسية التي تحتكم للموروث الاجتماعي الذي يحدد مكانة الإنسان بالانتماء العائلي والسلالي والعرقي أو بالغنى بمقدار ما يملك من المال والعقار.
الثالث: حُكم الجنوب بقوانين حالة الطوارئ من دون الإعلان عنها والتي تجيز للسلطة إطلاق يدها في ممارسة العنف الرسمي واستغلت ذلك في إشاعة الفوضى والانتهاكات القانونية وتقسيم الناس إلى كثير من المستضعفين وقلة من الأقوياء المتنمرين.
الرابع: الإمعان في تصوير الجنوبيين عاجزين عالة على غيرهم من خلال التنكر الإعلامي المستديم في السياسة الإعلامية للنظام القديم لما يسهم به الجنوب في الدخل القومي ورفد الخزانة العامة للدولة، وبالتضخيم المبالغ فيه حد الكذب الصريح بشأن المصروفات التنموية على المحافظات الجنوبية.
رفض الجنوبيين ومقاومتهم لسياسات الضم والإلحاق
عند التأمل بتأن وبهدوء بعيداً عن الانفعالات والانحيازات العاطفية، مع أو ضد، نجد القضية الجنوبية منسوجة بشكل محكم من تلك الجذور وتجلياتها المادية والمعنوية، في حياة الجنوبيين المعيشية اليومية، وفي تدهور مكانتهم الوطنية، وكانت الإحباطات والانكسارات هي العناوين الرئيسية في تفاصيل طموحات المواطن الجنوبي، وذلك قياساً على ما كان عليه هذا المواطن في ماضيه القريب.
وزاد الطين بلة لديهم، خيبة الأمل التي أصيبوا بها من أحزاب المعارضة السياسية التقليدية والتي كانت تطالبهم بالبحث عن الحلول لمشكلاتهم بالتمركز حول الوحدة بما في هذا المطلب من إجبارهم على أن يتمثلوا مشكلاتهم من منظور مشكلات الآخر منفصلاً عن واقعهم المعيشي بتفاصيله اليومية (بالقول بأن الشعب اليمني كله يعيش هذا الوضع متناسين أن لا مجال للمقارنة بين الأسباب الفاعلة في هذا الصدد بين الشمال والجنوب)، فأسقطوا آمالهم في أحزاب اللقاء المشترك وماثلوها بالسلطة، وأداروا ظهورهم لها وقرروا أن يمثلوا أنفسهم بأنفسهم في البحث عن حلول لواقعهم الأليم والمزري، واتجهوا نحو أخذ الأمور بأيديهم وقد وجدوا حوافزهم إلى أخذ زمام الأمور بأيديهم تزداد يوماً بعد يوم كلما تأكد لهم غياب الإرادة السياسية لدى السلطة للوقوف بشجاعة أمام المعضلات والمشكلات التي صنعتها سياساتها في الجنوب.
قاوم الجنوبيون كل سياسات النظام السابق القائم على الضم والإلحاق وطمس هوياتهم، ورفضوا الخنوع بأشكال شتى من المقاومة السلمية بما فيها الاحتفاظ بمسافة بينهم وبين السياسات التي أدارتها السلطة لاحتوائهم. واتخذت تلك المقاومة في ما بعد أشكالاً تنظيمية متنوعة مثل: اللجان الشعبية وحركة “موج” ثم “حتم”، وظهور تيار إصلاح مسار الوحدة داخل الحزب الاشتراكي، وتشكلت جمعيات للدفاع عن حقوقهم كان أرقى أشكالها جمعيات المتقاعدين العسكريين وجمعيات الشباب العاطلين عن العمل واختطوا أساليب جديدة في التعبير عن رفضهم لأوضاعهم التي تم قسرهم عليها بالاستفادة من مواد دستورية تسمح للمواطنين بالتعبير والتظاهر والاعتصامات وأخذت تلك الأشكال من التعبيرات الشعبية في الاتساع والتكرار وقامت السلطة بمواجهة الفعاليات الشعبية والجماهيرية السلمية بالخروج على الدستور والقوانين واختارت أسلوب العنف الدموي ومطاردة القيادات الشعبية وزج الكثيرين منهم في المعتقلات وقد تفوق هؤلاء على السلطة أخلاقياً بالاستمرار بالنضال السلمي كلما أوغلت السلطة باستخدام القمع الأمني، وعدم الاستجابة للمطالب الحقوقية إلا بالقطارة وأساليب التفافية وملتوية كان للفساد في جهاز الدولة دوراً فاعلا في هذا الصدد أمعنت السلطة أكثر فأكثر باستخدام القمع الأمني والحلول الأمنية لمشكلاتها بعيداً عن المشكلات الحقيقية للشعب فزاد عدد الشهداء في المسيرات والاحتجاجات السلمية واكتسبت هذه المسيرات من بعد مضموناً جديداً تمثل في توديع مواكب الشهداء، مرة بعد أخرى في ظل غياب أية مساندة جماهيرية معتبرة من محافظات الشمال للدفاع عنهم من ظلم السلطة وتغولها عليهم، فارتفعت الأصوات مجدداً بالنداءات من أجل التسامح والتصالح بين الجنوبيين ومن داخل هذا المضمار انبثق الشعور بالجنوبية، وتبلورت الحركة الشعبية إلى حركه سياسية من خلال تأسيس الفصائل المختلفة للحراك السلمي في الجنوب.
موقع الحراك السياسي السلمي من القضية الجنوبية
موقع الحراك السياسي السلمي في القضية الجنوبية والعملية السياسية الجارية اليوم في البلاد تتمثل في الحقائق المبينة أدناه، وهي:
1- الحراك السياسي السلمي أسقط من نفوس المواطنين في الجنوب والشمال الخوف وكسر حاجزه عندما تجاوز تقييد السلطة والمؤسسات الأمنية وغيرها من الأجهزة التنفيذية الحكومية للاعتصامات والتظاهرات والمسيرات الجماهيرية، وفتح بذلك آفاقا رحبة أمام نضال قطاعات واسعة من الشعب للحصول على حقوقها ورفض التسلط عليها ومثل نموذجاً لانطلاق الثورة الشبابية الشعبية السلمية.
2- كشف الحراك الجنوبي لا ديمقراطية النظام بل واستبداديته وزيف ادعاءاته بالحرص على الوحدة اليمنية والوطنية عندما واجه النضالات الشعبية بالأساليب القمعية معبراً بذلك عن الاستمرار في نهج الحرب.
3- إن إصرار الحراك السلمي الجنوبي على مواصلة نضاله السياسي وصموده أمام عنف السلطة وخياراته الأمنية بالقدر الذي كشف عجز السلطة في تقديم أي حلول أوضح بما لا يدع مجالاً للشك بأن حَّل مشكلات القضية الجنوبية يتعدى الحلول الشكلية إلى الحلول الجذرية فالأزمة الوطنية أزمة بنيوية تتطلب حلها تحولات سياسات تغييريه كبرى.
4- ساعد الحراك السياسي السلمي وبعد أن حقق لنفسه مكانة الحامل والرافع للقضية الجنوبية على أن تقوم أحزاب اللقاء المشترك بإعادة تصوراتها بشأن القضية الجنوبية وتعديل مواقفها بشأنها نحو مرونة أكبر وتفهم موضوعي مبتعدين عن الصياغات والمراوغة لمواقفهم تجاهه.
5- وأخذاً في الاعتبار للأبعاد سالفة الذكر من الأهمية بما كان اليوم أكثر من أي وقت التعامل مع الحراك بفصائله المختلفة وهي تمثل قطاعات واسعة من الشعب في الجنوب والسعي من خلال الحراك إلى كسب ثقة الشعب هناك خاصة ومن بعد الثورة الشبابية الشعبية التي أوجدت مناخات وطنية وآفاقا مفتوحة وتغييرية نحو المستقبل والعمل على تطبيع جميع القوى السياسية علاقاتها مع الحراك السلمي في الجنوب.
وعلى كل ما سبق، يمكن لنا أن نؤكد على أن القضية الجنوبية جاءت نتاجاً لكل تلك الأفعال والممارسات التي شكلت جذوراً لها وعلى ذلك نرى في الحزب الاشتراكي اليمني أن جميع الحروب الشطرية بين الدولتين السابقتين في كل من الشمال والجنوب والتي تمت باسم الوحدة أو باسم العقيدة وكذا الحروب والصراعات السياسية الداخلية الشمالية الشمالية والجنوبية الجنوبية في كل من الدولتين جميعهما، لم تنتج قضية جهوية قضية شمالية أو قضية جنوبية، فكل تلك الصراعات جرت في سياقات وضمن شروط سياسية داخلية مختلفة يجمعهما ويوحدهما، أن الطابع السياسي لكل من الدولتين شمولي وكل منهما بطريقته الخاصة تراوحت بين الاستبدادية والتوتاليتارية… وعلى ذلك فمن غير الممكن قراءة التاريخ وتوصيف أحداثه بأثر رجعي كما لا يمكن محاكمة ونقد التجربة السياسية في ماضي البلاد قبل قيام الجمهورية اليمنية، بالمنطق الفكري السياسي لليوم، لأننا لو فعلنا ذلك فسنجد أنفسنا أمام قراءة لا موضوعية لا تاريخية ولن نتمكن من أية إضافة نقدية للواقع ولن نخرج أبداً بحلول موضوعية لمشاكلنا.
إن القضية الجنوبية وجدت وتشكلت وتبلورت مشكلاتها، داخل تاريخ الوحدة بالشكل الذي عبرت عنه الجمهورية اليمنية من بعد حرب 1994، وهي بذلك نتاج موضوعي سياسي وتاريخي للحرب التي استهدفت إلغاء الوجود السياسي للجنوب وليس لأي سبب آخر، ذي صلة بالوحدة اليمنية أو برسالة دينية أو بمشروع وطني تحرري ليبرالي وحداثي.
انتهى بعون الله تعالى..