كتابات

عشرة أخطاء قاتلة أسقطت حكم صالح-ناصر يحيى

رغم أن الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح كان يواجه منذ خمس سنوات، قبل أن تنفجر الثورة الشعبية ضده في فبراير/شباط 2011، أوضاعا سياسية صعبة وتمردات جهوية خطرة فقد بدا غير مصدق أن رياح التغيير التي عصفت بحكام تونس ومصر وليبيا يمكن أن تصل إلى اليمن، وينزل ملايين اليمنيين إلى الميادين والشوارع، وينصبون الخيام معتصمين فيها شهورا طويلة مطالبين برحيله، ويخوضون مواجهات شرسة بالهتافات والحجارة في مواجهة قوات مكافحة الشغب المدججة بالسلاح والمصفحات، وقاذفات القنابل المسيلة للدموع!

كان صالح بالفعل يعتقد أن الوضع اليمني يختلف عن سائر البلدان العربية، ولطالما كان يتفاخر أمام الأجانب بذلك وبأنه قادر على مواجهة عواصف الربيع العربي. وفي الظاهر كان هناك ما يعزز هذا الشعور، فالخريطة السياسية اليمنية عشية ثورة فبراير والتجربة التاريخية التي مرت بها اليمن منذ 1990، أنتجت وضعا سياسيا مختلفا إلى حد ما عن الأوضاع المماثلة في تونس ومصر فضلا عن ليبيا وسوريا، سواء في بعض مظاهره السياسية التي سمحت بهامش سياسي وإعلامي غير مألوف في الأنظمة المشابهة، أو في طريقة إدارة رأس الدولة لعلاقاته وصراعاته مع قوى المعارضة بمختلف أسمائها وأشكالها، بحيث لا يقصيها تماما من المشهد السياسي، وفي المقابل لا يجعلها قادرة على إزاحته عن الحكم.

كذلك اهتم في سنوات حكمه بتأسيس تركيبة سياسية واجتماعية وقبلية/مناطقية تعينه على مواجهة المعارضة الحزبية بأساليب غير حكومية، إن صح التعبير، تشابه أساليب الأحزاب السياسية بين الجماهير.. بالإضافة إلى اطمئنانه من ناحية الجيش والأمن، حيث أبناؤه وأبناء أخيه وأشقاؤه وأقاربه يهيمنون على كل شيء.. كل ذلك جعل صالح مطمئنا لموقفه، فاستبعد تكرار ما حدث في تونس ومصر، وتراجع سريعا عن بعض مواقفه المتصلبة تجاه مطالب المعارضة، وأطلق مبادرة تصالحية ظن أنها كافية لسحب بخار الغضب المتراكم في النفوس ضده!

لم يحظ رئيس يمني منذ 400 عام بالفرصة التاريخية التي توفرت للرئيس السابق علي صالح في حكم اليمن كاملا ودون منغصات تذكر. هذه الفرصة النادرة توفرت بعد الحرب الأهلية (1994)، حيث خضع اليمن لقيادة سياسية واحدة بعد هزيمة مشروع الانفصال، ولم يعد هناك تهديد داخلي لانتفاء وجود أي معارضة قوية للحكم (الحزب الوحيد الذي كان يمتلك قواعد شعبية كبيرة وحضورا سياسيا قويا كان: حزب الإصلاح الذي كان مشاركا في تحالف حكومي مع صالح).. وعلى الصعيد الخارجي توصل اليمنيون والسعوديون بعد أقل من عام إلى اتفاق يمهد لحل مشاكل الحدود المستعصية.

ومن سوء حظ اليمنيين مع الفرص التاريخية أن صالح فشل في فهم روح المرحلة التاريخية التي دخلتها اليمن بعد 1994، وفشل أيضا في استخلاص دروس وعبر الحرب الأهلية لمنع تكرار المآسي والأخطاء مستسلما لأوهام الزعامة المطلقة ودور نصف الإله! ومن ذلك الحين وخلال 17 عاما اتخذت إدارة صالح للبلاد منحى ينتج الأزمات السياسية والاجتماعية الواحدة تلو الأخرى، حتى وصل الوضع إلى درجة الانفجار عشية ثورة فبراير.

يمكن تحديد عشرة أخطاء فادحة ارتكبها صالح، ومهدت لانفجار الثورة الشعبية ضده، رغم أنها لم تكن سرا محجوبا عنه وعن حزبه، وكثيرا ما أشار إليها المعارضون، والمنظمات والتقارير الدولية المهتمة باليمن.. وهذا استعراض مركز لها:

 أولا: تضييع فرصة بناء نطام سياسي سليم يتدارك به أخطاء الماضي، إذ كانت الأنظمة السابقة ترزح تحت هيمنة الزعيم الفرد/أو الحزب الواحد الحاكم باسم الشعب المغلوب على أمره، واتجه في المقابل إلى بناء سلطة عائلية سلم لها أبرز أجهزة الدولة العسكرية والأمنية والمدنية.. وصار النظام أقرب لنظام ملكي رغما عن شعارات الجمهورية الموجودة في كل مكان!

وكان أكثر بنود هذا المخطط الانقلابي استفزازا للشعب: مشروع توريث السلطة الجمهورية لابن الرئيس البكر على الطريقة السورية، وعلى حسب ما كان مقررا في العراق وليبيا ومصر. وفي بلد مثل اليمن خاض حروبا شرسة لإسقاط النظام الملكي في الشمال والكيانات العائلية في الجنوب، والانتصار لفكرة النظام الجمهوري، وظلت كل أدبيات الدولة السياسية والفكرية والثقافية والتعليمية تندد بالحكم العائلي الوراثي.

في مثل هذه البيئة يكون من المستحيل افتراض أن القوى السياسية والاجتماعية اليمنية سوف تقبل بتمرير مشروع التوريث بسهولة؛ رغم ما كان يبدو من الاستعدادات العسكرية، ومحاولات تطبيع الوعي الشعبي على تقبل المشروع بأساليب إعلامية سياسية، وتكوين مجموعات نخبوية للترويج للتوريث باعتباره تحصيل حاصل، وتجعل من تولي ابن صالح لرئاسة الجمهورية أمرا طبيعيا يتم في إطار القواعد الديمقراطية!

 ثانيا: استمرأ صالح تكريس ممارسة ديمقراطية مزورة أفرغت الفكرة من معانيها، وجعلتها مجرد أكذوبة تتكرر كل عدة سنوات، ولا تنتج إلا السلطة نفسها.. وبذلك أجهضت كل الآمال في إصلاح النظام الانتخابي، وإمكانية إجراء انتخابات نزيهة، وإمكانية حدوث تداول للسلطة.. ووجدت المعارضة نفسها أمام طريق مسدود، وممارسة سياسية عدمية تنذر بالقضاء عليها بالموت البطيء إن لم تعمل على إحداث إصلاح حقيقي في الممارسة السياسية والانتخابية، وألهمتها ثورتا تونس ومصر الشعبيتان طريق الخلاص فكان ما كان.

 ثالثا: أخطأ صالح في تقييم فعالية اللقاء المشترك المعارض الرئيسي لحكمه، وقدرته على الاستمرار في نشاطه المعارض ضده، وفي تكوين تحالف اجتماعي مع رموز وقوى قبلية مهمة همشت في سبيل تمهيد الطريق أمام مشروع التوريث. وفضل صالح التعامل مع جبهة المعارضة على طريقته المعهودة في محاولة دق إسفين الشقاق بين أحزابها وحلفائها، خاصة ما بين الإسلاميين والاشتراكيين، والنفخ في تاريخ خلافاتهم القديمة.

 الخطأ شمل أيضا الفشل في تقدير القوة الشعبية للتجمع اليمني للإصلاح –أقوى أحزاب المعارضة- ظنا منه أن سنوات التضييق على الإسلاميين، وإقصائهم من وجودهم في أجهزة الدولة خاصة قطاع التعليم، ومحاصرتهم: سياسيا وإعلاميا سوف تضعف حزب الإصلاح، وتحوله إلى حزب هلامي مثلما حدث مع أحزاب أخرى.. وبالنسبة للحزب الاشتراكي اليمني كان الظن أن حالة الضعف والتباينات الداخلية التي يعاني منها منذ خروجه من السلطة، وبسبب تطورات القضية الجنوبية، سوف تمنعه من إبداء حيوية جديدة في معارضته السياسية بالتعاون مع خصم الأمس اللدود.

 رابعا: أهمل نظام صالح البعد الاجتماعي في سياساته الاقتصادية، وشهدت اليمن تدهورا حادا في مستوى الخدمات الصحية والتعليمية، وسوء خدمات الكهرباء والمياه، وازدادت نسبة البطالة، وانخفض مستوى المعيشة، وضاقت سبل العيش أمام ملايين المواطنين حتى صارت مغامرات تهريب الشباب والعمال عبر الحدود مع السعودية تجارة نشطة، رغم ما يرافقها من مخاطر الموت في الصحارى، والسجن!

 في المقابل، كانت الطبقة الطفيلية التي تكونت حول صالح تزداد ثراء وتبجحا في ممارسات الفساد، وأسرفت في الاستئثار بالثروة العامة، والحصول على الامتيازات السياسية والاقتصادية والوظيفية لها ولأبنائها، وحرمان عامة الشعب إلا من الفتات، فازداد الشعور بالسخط والحرمان والضيق واليأس من إمكانية حدوث إصلاح في ظل هذا النظام.

وكل ذلك حدث في ظل تحول الفساد والفوضى إلى سلوك شائع مؤسسي مدعوم من رأس النظام وبإدارته لتفاصيله، وحماية رموزه.

 خامسا: بناء نظام أمني متوغل في الحياة العامة وأجهزة الدولة، والاعتماد عليه في تسيير كل شيء حتى في المسائل ذات البعد الشعبي والخيري والعلمي.. وصار لتلك الأجهزة المتعددة الأسماء والمهام اليد الطولى في كل شيء، واستخدمها صالح في مواجهة مشاكل اجتماعية وسياسية مما زاد من تعقيد المشاكل! وهو وضع يتصادم مع شعارات احترام الديمقراطية، والحريات العامة، وحقوق الإنسان، ومقتضيات ما يردده النظام عن سيادة القانون، ومدنية الدولة. وقد تورطت تلك الأجهزة الأمنية في قضايا كثيرة صبغت النظام بالصفة البوليسية، خاصة أثناء أحداث الثورة الشعبية ومن قبلها أحداث صعدة والجنوب.

 سادسا: استمرأ صالح استخدام الورقة الطائفية، ودعم جماعات مذهبية (سنية وشيعية) وعلماء دين من شتى المذاهب لاستخدام الجميع ضد خصومه السياسيين، سواء في تفتيت صفوفهم أو عند الحاجة لفتاواهم التي كان بعضها يتعارض من المنطق الديمقراطي الذي تقوم عليه الدولة، مثل تحريم الحزبية وتكفير الديمقراطية، وعدم جواز منافسة ولي الأمر ومعارضته! وقد أنتجت هذه السياسة حرائق في أماكن عديدة، وتمردت بعضها ضد صالح نفسه فأضعفت بنيان سلطته.

 سابعا: الخطأ في التعامل مع أخطر أزمتين واجههما النظام، وهما: مشكلة صعدة، والاحتجاجات الحقوقية في الجنوب؛ خاصة بعد أن تسببت سياساته القاصرة في توفير كل الأسباب لزيادة نقمة المواطنين في الجنوب سواء في ممارسات الفساد، والفشل الإداري، والتدهور المعيشي المذل الذي واجهه عشرات الآلاف من العسكريين والأمنيين السابقين.

وفي الحالتين أدى التعامل الانتهازي وقصر النظر إلى تجذر الأزمتين وتحولهما إلى أزمة وجودية تهدد وحدة اليمن السياسي، بعد أن صار الحوثيون يسيطرون على مساحات شاسعة في شمال غرب اليمن ويديرونها كسلطة دولة، وبعد أن تحولت المطالب الحقوقية في الجنوب إلى دعوة انفصالية شرسة تهدد بتفتت الجنوب واليمن إلى دويلات!

 ثامنا: الاطمئنان التام لتركيبة تحالفاته المحلية دون الاستفادة من الدروس التي تؤكد أن مثل هذه التحالفات التي لا تقوم على المبدئية، وتحكمها قاعدة الربح والخسارة سرعان ما تنهار عند مواجهة الشدائد، وتنقلب ضد صاحبها.. وكذلك الاعتماد على القوة العسكرية للقطاعات التي أنشئت خصيصا لضمان البقاء في السلطة وتوريثها، وعدم الاستفادة من دروس التجربة العراقية في المجال العسكري عندما انهارت القوات الضاربة المميزة سريعا أمام الغزو الأجنبي؛ رغم كل المميزات التي منحت لها، وتفضيلها على غيرها.

 تاسعا: التمادي في رفض الاستجابة لمطالب الإصلاح السياسي الشامل بعد سقوط نظام ابن علي في تونس، وبدء ظهور مؤشرات سقط مبارك في مصر، والمعاندة في قراءة ما يجري في بلدان الربيع العربي قراءة صحيحة، ولجوء رأس الدولة إلى إطلاق مبادرات ترقيعية لم تعد صالحة ولا كافية ولا مقنعة للشارع اليمني الثائر في كل مكان.

 عاشرا: راهن صالح على أن علاقاته وتحالفاته الإقليمية والدولية سوف تجنبه مصير حاكمي تونس ومصر، ولا سيما حاجة الولايات المتحدة والسعودية لجهوده في مواجهة تنظيم القاعدة الناشط في اليمن والجزيرة العربية، وربما هذا يفسر أن صالح هو الذي بادر إلى طلب تدخل الملك عبد الله بن عبد العزيز للوساطة بينه وبين قوى المعارضة اليمنية.

ولا شك أنه لم يكن يتوقع أبدا أن تتضمن المبادرة الخليجية ما يوجب تنحيه عن السلطة، وهو أمر لا يمكن أن يحدث دون توافق سعودي أمريكي باعتبار الرياض وواشنطن أبرز عاصمتين معنيتين بالشأن اليمني، ومن الواضح أنهما كانتا قد وصلتا إلى قناعة بضرورة خروج صالح من المشهد السياسي حفاظا على مصالحهما، ومن أجل تحنيب اليمن مزيدا من الفوضى والقلاقل التي قد تؤدي إلى انهياره وتحوله إلى صومال جديد.

الجزيرة نت

زر الذهاب إلى الأعلى