الحوار الوطنيرؤى الأحزاب

رؤية أنصــار الله لجذور القضية الجنوبية

المقدمة:

 قبل الدخول في جذور القضية الجنوبية لا بد من الرجوع إلى التاريخ؛ بغرض فهم القضية لا لتحميل مرحلة ما قبل عام 90 م المسؤولية، إضافة إلى أنه لا بد من تقييم تجربة الوحدة (1990-1994 ) لمعرفة الأسباب المباشرة والبنائية التي أنشأت القضية، فتلك الفترة تحديداً وليس ما قبلها أو ما بعدها هي الفترة التي تكونت فيها الجذور السياسية بشكل رئيسي، مع أنه لا يمكننا إنكارَ دور الفترة الزمنية ما قبل عام 90م كعامل مساعد أو ما بعد عام 94م خصوصاً في نشوء البعد الحقوقي للقضية، إلا أن دورهما لا يتجاوز العوامل المساعدة الغير منشئة للقضية من الناحية السياسية، وبهذا فنحن نعتبر أن الحرب التي أشعلت في عام 94م هي العامل المباشر لظهور القضية، كما أن النظام العصبوي (العسكري والقبلي والديني) الحاكم في صنعاء لم يكن مؤهلاً للتحول إلى الدولة التي كانت شرطاً لاستمرار الوحدة، وهذا هو الجذر البنائي للقضية الجنوبية.

 ولأن الحوار الوطني ليس مكاناً للمزايدات السياسية أو لتصيد الأخطاء، ولأن التاريخ سيسجل كلَّ حرف يكتب وكلَّ كلمة ستقال في هذا الفريق ” فريق القضية الجنوبية ” الذي يقع على كاهله إيجاد حل للقضية الجنوبية التي تعتبر المدخل لنجاح أو فشل مؤتمر الحوار الوطني، فإننا نجد أنفسنا مجبرين على تسمية الأشياء بمسمياتها وتحديد مسؤولية الأطراف السياسية في صناعة القضية الجنوبية، سواء بالتقصير وحسن النية وعدم القدرة على فهم وتحليل المرحلة كما كانت عليه القيادة الجنوبية وقتها ممثلة بقيادة الحزب الاشتراكي، أو بالتآمر والنيات المبيتة للانقضاض على السلطة والثروة واعتبار الوحدة خطوة تكتيكية تمهيدًا لإخراج الشريك منها لاحقاً كما ظهر به نظام صنعاء العصبوي.

 وحتى لا تكون رُؤْيَتُنَا مَجُرَّدَ كيل للتهم وتحميل للمسؤوليات بشكل عام فإننا سننتقل إلى تفصيل ذلك، معتذرين من الجميع عن الإطالة التي لا بد منها في مثل هذه اللحظات التاريخية المهمة، حيث لا يجب أن تأخذنا العجلة أو تدفعنا إلى الاجتزاء الذي قد يخرج الرؤية عن مضمونها؛ فالقضية الجنوبية بحاجة إلى دراسة معمقة تفكك عُقْدَهَا وتبحث عن مكامن الداء ليسهل العلاج.

 كما أننا ننوه إلى أن هذه الرؤية أقربُ للدراسة البحثية منها إلى رؤية طرف سياسي، فنحن لم نكن طرفاً في المشكلة أو الصراع السياسي في حينه, وقد رأينا أن تُلخِص رُؤْيَتُنَا أَهَمَّ الدراسات البحثية الموضوعية التي أعدت من قبل أحد أهم الكتاب”1” عن القضية الجنوبية، إيمانًا منا بمظلومية الجنوبيين، الذين هم في أمس الحاجة إلى الحقيقة والموضوعية في الطرح، لا إلى المجاملات السياسية أو التضامن الغير موضوعي.

 كما أننا نعتبر أن رُؤْيَتَنَا شهادةٌ للتاريخ وليست بهدف الاصطياد في الماء العكر عبر إدانة طرف دون آخر أو كسب ود بعض الأطراف السياسية أو لمغازلة شارع معين؛ لذا فإن رُؤْيَتَنَا ستتضمن تحليلاً لأداء كل الأطراف السياسية  المرتبطة بالقضية الجنوبية، وستتناول رُؤْيَتُنَا العناوين التالية :

 أولاً : القضية الجنوبية..خلفية تاريخية

 القضية الجنوبية هي نتاج فشل النخب السياسية اليمنية في تحويل وحدة 22 مايو 1990 السلمية الطوعية من حالة عاطفية شعبوية إلى مشروع سياسي نخبوي مجسد في دولة لكل مواطنيها..ومعنى ذلك أن العلاقة بينها وبين بناء الدولة علاقة ارتباط وضرورة.. فالقضية الجنوبية هي قضية بناء الدولة..وهي من هذه الزاوية القضية اليمنية المركزية الأكثر إلحاحا رغم الإيحاء الجهوي للتسمية.. وحلها يبدأ من البحث الجاد والموضوعي في أسباب ومظاهر فشل بناء هذه الدولة، وينتهي ببنائها فعليا على أرض الواقع.

 وفيما يلي سنحاول تسليط الضوء على القضية الجنوبية باعتبارها اتجاهًا في السياسة يستقطب التأييد شمالا وجنوبا وليس جهة في الجغرافيا تهم ساكنيها فقط..كما وسنحاول إيضاح بعض الجوانب في هذه القضية نرى أنها غير مفهومة بما فيه الكفاية أو أن البعض يتعسف تفسيرها على نحو يخرجها عن سياقها الوطني العام إلى سياقات إلحاقية شمالا أو إنفصالية جنوبا.

    لفهم القضية الجنوبية علينا أن نميز تحت مسمى اليمن بين اليمن الحضاري الثقافي واليمن السياسي.. الأول هو نتاج تفاعل الجغرافيا والتاريخ في هذه المنطقة من العالم المعروفة باليمن وتشمل أراضي الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والمخلاف السليماني..  هذا التفاعل بدأ في لحظة ما من التاريخ واستمر حقبا زمنية طويلة ونتج عنه بروز جماعة بشرية اسمها الشعب اليمني..ولهذا الشعب هوية جامعة متعددة الأبعاد برموزها المستقرة في الذاكرة الجمعية لليمنيين.. ومن غير الجائز اختزال هذه الهوية في بعد واحد ديني أو مذهبي أو جهوي.. واليمن الحضاري الثقافي واحد لا يقبل التجزئة، ولا يعترف بأي حدود سياسية داخل الجغرافيا اليمنية، وليس بمقدور الأفراد ولا الجماعات ولا حتى الدول أن ترسم له حدودا نهائية من هذا القبيل.. وإذا وجدت مثل هذه الحدود سيقاومها من جهتيها وليس من جهة واحدة عاجلا في المدى المنظور أم آجلا في المدى البعيد.. وهذه المقاومة هي وظيفته غير القابلة للتعطيل..وأي محاولة لتعطيلها هي الحكم على اليمن بعدم الاستقرار..واليمن الحضاري الثقافي يندرج في إطار اللامختار؛ لأن اليمنيين ليسوا أحرارا في قبوله أو عدم قبوله..إنه قَدَرُهُمُ الذي لا فكاك منه.. ومثلما لا يختار المرء أمه وأباه؛ فالشعوب لا تختار انتماءاتها الحضارية الثقافية.

 هذا عن اليمن الحضاري الثقافي..أما اليمن السياسي فهو التعبير السياسي المجسد في دولة..وعلى هذا الأساس يكون اليمن الحضاري الثقافي هو الأصل وتعبيراته السياسية هي الفرع.. والأصل كان واحدا دائما، بينما تراوحت تعبيراته السياسية بين الوحدة والتعدد في كل مراحل التاريخ القديم والوسيط والحديث.. وهذه المراوحة كانت دائما نتاجا لصراع العصبيات على السلطة والثروة والنفوذ في بلد ذي جغرافية صعبة لم تكن حينها قادرة على إسناد التاريخ بقدر كاف من الفاعلية التي تحول دون تعدد التعبيرات السياسية.. فعندما يكون مستوى التساند بين الجغرافيا والتاريخ قويا يكون هناك في الغالب الأعم تعبير سياسي واحد عن الكيان الحضاري الثقافي الواحد بغض النظر عما إذا كان هذا التعبير متوافقا مع الكيان أو مهيمنا عليه..وأقرب مثال على ذلك مصر التي حكمت دائما بدولة مركزية واحدة وأدى التساند القوي بين تاريخها وجغرافيتها إلى نشوء شعب متجانس نسبيا يعيش في منطقة مستوية على امتداد النيل..وبسبب هذا التجانس غدا من الصعب الحديث في مصر المعاصرة عن هيمنة ذات طابع عصبوي..أما في اليمن لم يكن التساند بين الجغرافيا والتاريخ قويا على النحو الذي كانته مصر.. ولهذا تعددت في كثير من الأحيان التعبيرات السياسية داخل الكيان الحضاري الثقافي الواحد..وعوضًا عن نشوء شعب متجانس نسبيا نشأ شعب تنازعته وحدة كيانه الحضاري الثقافي وتعددية تعبيراته السياسية.. ومن هنا جاءت الوحدة في إطار التعدد والتعدد في إطار الوحدة.. فاليمنيون شعب واحد تنتظمه ثقافة واحدة جامعة مع وجود ثقافات فرعية.. والتعدد هو مصدر غنى وإثراء مادي ومعنوي للمجتمع..لكن يمكن أيضا أن يكون عامل إفقار..وهذا يتوقف على طبيعة التعبير السياسي المهيكل في دولة واحدة..فحين تكون هذه الدولة متوافقة ومتسقة ومنسجمة مع تعددية اليمن الحضاري الثقافي يكون الثراء والغنى..أما إذا قامت على الغلبة والهيمنة وتهميش التعدد لصالح مكون عصبوي وأحد أو أكثر فإن الجغرافيا تكف عن مساندة التاريخ وتعود لتشتغل ضدا عليه..ويتجلى هذا الاشتغال من خلال تضخم الثقافات الفرعية وتحولها إلى آلية حمائية ضد الغلبة والهيمنة والتهميش.. وكلما تطرف المركز في ممارسة الغلبة والهيمنة والتهميش والإقصاء كلما تضخمت الثقافات الفرعية وتطرفت في المقاومة..وفي حالات اليأس تحاول الثقافات الفرعية إعادة تعريف نفسها بطريقة تعسفية كما لو كانت ثقافة مختلفة نوعيا في مواجهة الثقافة الجامعة: سواء أدركت ذلك أم لم تدرك..ولأن إعادة التعريف غير ممكنة ثقافيا بسبب عدم القدرة على الفكاك من واحدية اليمن الحضاري الثقافي فإن ما يتم عمليا هو الاستنجاد باليمن السياسي واستدعاء تعدديته للتخلص من التهميش والإقصاء المتدثر بالوحدة..لهذا يلاحظ على الخطاب المقاوم للتهميش والإقصاء أنه سياسي دائما وليس ثقافيا..وهذا يعني أنه لا يستطيع أن ينتصر في فضاء الثقافة فيحاول أن ينتصر في فضاء السياسة ولكن من خلال التنقيب عن اختلافات في الثقافة..ولأن هذه الاختلافات فرعية تنتمي إلى الدرجة لا إلى النوع فإن الخطاب السياسي الذي يتكئ عليها لا يكون متسقا ولا يكون مقنعا..وفي حالات معينة يكون صداميا وانفعاليا مثله مثل الخطاب المضاد الذي يشرعن للإقصاء والتهميش..إنه إذن خطاب إقصائي مظلوم في مواجهة خطاب إقصائي ظالم..الأول يستدعي اليمن السياسي لتبرير الانفصال.. والثاني يتدثر باليمن الحضاري الثقافي لتسويغ الهيمنة والإقصاء والتهميش.. وكلاهما ماضوي لا يلتفت إلى حاجات الحاضر.

 ثانياً : جذور القضية الجنوبية (1990 – 1994)

 لا يمكن لنا أن نتحرك صوب المستقبل، ما لم نعمل على تصحيح ماضينا، بتحريره من أسر القراءات المتحيزة التي تسعى لتوظيفه في صراعات الحاضر..ونحن هنا لا نشير إلى الماضي البعيد، إنما إلى الماضي القريب جدا الذي مازال حاضرا بشخوصه وعاشه معظم اليمنيين الأحياء الذين شهدوا يومي 22 مايو 1990 و7 يوليه 1994، ولم يستوعبوا بعد ما جرى خلال الفترة الزمنية الواقعة بين هذين اليومين، وما بعدها بسبب غلبة الرواية على الدراية..فالرواية كانت ومازالت صاحبة الصوت المرفوع الذي أشاع في الناس أن يوم 7 يوليه هو يوم النصر العظيم، وأنه يوم مشهود من أيام الوطن لا من أيام العصبيات المدمرة للأوطان.

 واليمنيون اليوم في مؤتمر للحوار الوطني الذي يفترض أن يكرس للبحث في مسألة بناء الدولة.. والقضية الجنوبية هي القضية الكبرى بين القضايا المطروحة على جدول أعمال هذا المؤتمر من حيث إن حلها حلا عادلا هو – وليس غيره – بوابة الولوج إلى الدولة.. والخوف كل الخوف أن يجري التعامل معها انطلاقا من ثنائية الوحدة والانفصال التي كرستها الرواية للتستر على الدوافع الحقيقية لحرب 1994 باعتبارها حَرْبًا حركتها عصبيات ممانعة لبناء دولة لكل اليمنيين.. وفي هذه القراءة سنبدأ بتصحيح بعض المفاهيم الممهدة لعرض تجربة الوحدة وبيان معنى القضية الجنوبية.

 إن ما حدث يوم 22 مايو 1990 هو الإعلان عن تأسيس جديد لوحدة بين يمنين سياسيين تفصل بينهما قرون من التشظي، وليس إعادة تحقيق وحدة يمن سياسي واحد، انشطر في لحظة زمنية منظورة إلى شطرين أحدهما أصل متبوع والآخر فرع تابع.. و”الإعلان عن التأسيس” هو لحظة التدشين في عملية التوحيد التي تحتاج بالضرورة إلى وقت وإلى رعاية وتفاهم وتوافق من كل الأطراف..أما “إعادة التحقيق” فهو تعبير مخادع يوحي بأن ما حدث في 22 مايو 1990 هو لحظة التتويج في عملية توحيدية بدأت في وقت ما، وانتهت في هذا اليوم.

 الوحدة لم تكن بين حزبين ولا بين سلطتين؛ وإنما كانت بين دولتين لصالح دولة ثالثة بحقائق عسكرية وأمنية وسياسية وإدارية مختلفة لاهي حقائق دولة الشمال ولاهي حقائق دولة الجنوب..وهذه الدولة الثالثة ذات نظام سياسي ديمقراطي يتضمن إدانة صريحة للنظامين السياسيين السابقين، ويعطيها وحدها دون أي من الدولتين السابقتين حق التمدد وممارسة السيادة على كامل جغرافية اليمن الحضاري الثقافي الواحد..ومن غير هذه الدولة الثالثة ذات الحقائق المختلفة والنظام السياسي الديمقراطي المغاير تكون الوحدة باطلةً وغير مؤهلةٍ للبقاء والاستمرار.

 وفي مفهوم الوحدة نميز – منطقيا ومنهجيا- بين سياقين..الأول:  هو الوحدة كحالة عاطفية وجدانية استدعتها الحركة الوطنية اليمنية من أرشيف التاريخ بصورة مثالية بعد تنقيته ذهنيًّا من حروبه وصراعاته وتغلباته وانقساماته وأيقظتها في نفوس وعقول الجماهير كحلم تغييري منذ ثلاثينيات القرن الماضي انطلاقا من مدينة عدن.. والثاني: هو الوحدة كمشروع سياسي وطني نخبوي معيار نجاحه الوحيد أن يتجسد في دولة – ثالثة – ذات نظام سياسي ديمقراطي حقيقي يضمن أن تكون الدولة لكل مواطنيها لا دولة يغتصبها حزب أو مراكز قوى متكئة على عصبيات.

 وعلى أساس هذا التمييز بين الوحدة كحالة عاطفية شعبوية والوحدة كمشروع سياسي نخبوي نرى أن الذين وقفوا ضد مشروع دستور دولة الوحدة وقاطعوا الاستفتاء عليه لم يكونوا ضد الوحدة بالمعنى الأول لكنهم كانوا ضدها بالمعنى الثاني..أي أنهم كانوا ضد “الدولة الثالثة” دفاعا عن دولة الشمال..ضد الجمهورية اليمنية، دفاعا عن الجمهورية العربية اليمنية.. والأرجح أن يوم 22 مايو 1990 كان سيتأخر كثيرا لو أن حملة تكفير مشروع دستور دولة الوحدة كانت سابقة عليه وليست لاحقة له..لذا نلاحظ أن تأجيل الاستفتاء على مشروع الدستور إلى ما بعد 22 مايو 1990 تحول من الناحية العملية إلى تبكير بالحرب.

 أما التحالف «العسكري القبلي الديني»  الذي أشعل حرب 1994 فقد استثمر الوحدة كحالة عاطفية شعبوية لتدميرها كمشروع سياسي وطني نخبوي.. فبدلا من تجييش عاطفة الوحدة لدى الجماهير لصالح بناء “الدولة الثالثة” جرى تجييشها لصالح حرب 1994…وبالحرب تحولت عاطفة الوحدة إلى دماء وجراح أشاعت الكراهية ونقلت براميل التشطير من الجغرافيا إلى النفوس..وهنا بالتحديد يكمن جذر القضية الجنوبية باعتبارها قضية وطنية نجمت عن انقلاب عسكري عصبوي موجه ضد مشروع دولة الوحدة..والأنكأ من كل ذلك أن الانقلابيين ظلوا يستخدمون عاطفة الوحدة لشرعنة نهب واستباحة الجنوب الأمر الذي دمر هذه العاطفة عند أغلب سكان المحافظات الجنوبية وأشاع الخوف عليها عند سكان محافظات الشمال..وبهذا انقسم اليمنيون جغرافيا بين كاره للوحدة جنوبا وخائف عليها شمالا..ومع أن سبب الكراهية والخوف في الحالتين واحد وهو حرب 1994 التي دمرت الوحدة كمشروع سياسي وطني إلا أن نخبا في الجهتين تتهرب من الاعتراف بهذه الحقيقة..فالتي في الجنوب تعمق الكراهية وتعطيها بعدا جهويا صريحا..والتي في الشمال توسع مساحة الخوف وتحرضه بشعارات وطنية ودينية للتستر على جهويتها وعصبويتها الضيقة..الأولى تستشهد بنتائج الحرب لشرعنة فك الارتباط وتستعدي الكارهين ضد الخائفين..والثانية تتمسك بالضم والإلحاق تحت شعار الوحدة لشرعنة ما تقدر على شرعنته من نتائج الحرب وتستعدي الخائفين ضد الكارهين..والحقيقة متوارية في المسافة الواقعة بين هذين القطبين، مع أنه يجب علينا التمييز بين الفعل وردة الفعل، وبين الجلاد والضحية.

 والحرب التي أنتجت القضية الجنوبية لم تكن بين جهتين في الجغرافيا إنما بين اتجاهين في السياسة.. فالذين كسبوا الحرب وجنوا ثمارها هم من الشمال والجنوب..والذين خسروها هم أيضا من الشمال والجنوب..أما المهزوم الأول والأكبر فيها فهو الشعب اليمني بشقيه الكاره والخائف.

 والحرب في شكلها المباشر والصريح كانت ضد الحزب الاشتراكي اليمني في الشمال والجنوب ثم لم تلبث أن اتخذت شكل الحرب على الجنوب جغرافية وإنسانًا ..والخلاف الذي أدى إلى الحرب لم يكن بسبب هروب قيادة الحزب الاشتراكي من الوحدة؛ وإنما بسبب هروب الرئيس السابق صالح، وتحالفه القبلي العسكري الديني من استحقاقات بناء دولة الوحدة.

 وإذا كانت الحرب قد طالت في الشمال جيش الجنوب المحاصر بعيدا عن خطوط إمداده فإنها طالت أيضا مقار الحزب الاشتراكي في كل المحافظات مع أنها ليست أهدافا عسكرية..كما طالت الآلاف من أعضائه وكوادره الذين تعرضوا للإقصاء والتهميش والحرب النفسية المعلنة وغير المعلنة حتى أصبح الاشتراكي القابض على قناعاته كالقابض على الجمر.

 أما في الجنوب فقد طالت الحرب كل شيء من الأرض وما عليها إلى الإنسان العادي وما ألفه واعتاد عليه وتعلق به من تاريخ ورمزيات ومن حضور حقيقي للدولة والنظام والقانون.. وتفسير ذلك أن النظام الذي حرك الحرب ليس نظام دولة وإنما نظام عصبيات مغتصبة للدولة.. والعصبيات حينما تنتصر عسكريا لا تكتفي بهزيمة الخصم؛ وإنما تذهب بعيدا في استباحة مناطق حضوره التاريخي وتأديبها لتكون عبرة لمن يريد أن يعتبر..  يضاف إلى ذلك أن اتساع حجم الطبقة الفاسدة داخل نظام العصبيات جعل علي صالح يعتمد على العطاءات والمكافآت في استرضاء مراكز النفوذ وفي كسب الولاءات وشراء الذمم.. وهذا ما كان قد حصل مع تهامة التي استبيحت أراضيها بالكيلومترات وتحول أبناؤها إلى عمال يومية في مزارع المتنفذين ولصوص الأراضي..مع ملاحظة أن المقارنة بين تهامة والمحافظات الجنوبية غير جائزة منطقيا ومنهجيا.. فتهامة جزء من الشمال أما الجنوب فجزء من اليمن..وتهامة لم تكن دولة ولا مشروعا سياسيا بينما الجنوب كان حتى الأمس القريب دولة ذات سيادة ومشروعا سياسيا منظورا على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.

 أما استباحة منازل وبيوت قادة ومسئولي دولة الجنوب فتندرج في إطار الإمعان في الإهانة وممارسة الإذلال..وهذه ثقافة متأصلة في ذاكرة أمراء الحرب .

 وفي القضية الجنوبية نميز منطقيا ومنهجيا بين الاعتراف بطابعها الحقوقي والاعتراف بطابعها السياسي.. الأول يتوقف عند النتائج ويتجنب الإشارة إلى السبب.. يتحدث في أحسن الأحوال عن سوء إدارة نتائج الحرب مع الإقرار الضمني بشرعية دوافعها ومحركاتها..أما الثاني فيتجه إلى السبب مشيرا إلى طبيعة المصالح المتكئة على عصبيات نافذة ما قبل وطنية تعجز عن تبرير نفسها وإدارة شئونها بوسائل أخرى غير الوسائل العسكرية.. والتعتيم على الطابع السياسي للقضية الجنوبية يخلق العقبات أمام أية مقترحات ورؤى وطنية لحلها حلا عادلا يقتلع أسباب الحروب الداخلية، ويشكل مدخلا لبناء دولة ضامنة لمصالح كل اليمنيين في الشمال وفي الجنوب.. ومن بديهيات الأشياء أن تكون هذه الدولة متحررة تماما من أي نفوذ عصبوي.. لهذا السبب نرى الانتصار للقضية الجنوبية انتصارا لليمن برمته.

 تبين فيما بعد أن نخبة الحكم في صنعاء دخلت الوحدة وهي تضمر فرض نموذجها على اليمن كله، ولم تكن خطوة 22 مايو السلمية بالنسبة لها سوى إجراء تكتيكي لتغيير شروط الحرب القديمة بين الشطرين من حرب بين دولتين إلى حرب داخلية بين “شرعية” و”متمردين على الشرعية“.

 بهذه الطريقة فرضت نخبة الحكم في صنعاء نموذجها على الوحدة وعممت نظام الجمهورية العربية اليمنية على اليمن كله.. وبدلا عن وحدة 22 مايو الطوعية السلمية أقامت وحدة 7 يوليو “المعمدة بالدم” معتقدة أن نظام الجمهورية العربية اليمنية هو النموذج الذي انتصر على صعيد عالمي في الحرب الباردة ويجب أن ينتصر على صعيد محلي وأن نظام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية هو النموذج الذي خسر الحرب الباردة عالميا ويجب أن يخسرها محليا وكأن دولة الشمال هي ألمانيا الغربية ودولة الجنوب هي ألمانيا الشرقية.. علما بأن المقارنة بين الحالة اليمنية والحالة الألمانية غير جائزة لا منطقيا ولا منهجيا؛ فالشروط في الحالتين مختلفة من الألف إلى الياء.

 إن حرب 1994 هي انقلاب على الوحدة كمشروع سياسي وطني نخبوي باسم الوحدة كحالة عاطفية شعبوية ..والوحدة بالمعنى الأول بدأت عمليا في 22 مايو 1990..بينما هي بالمعنى الثاني مفتوحة على الزمن..لكن نتائج الحرب أفضت إلى تدمير الوحدة بالمعنى الثاني أيضا على الأقل عند أغلب سكان المحافظات الجنوبية التي هي أحد طرفي الوحدة بالمعنى الأول.. وإذا جاز لمشعلي حرب 1994 أن ينقلبوا على وحدة 22 مايو 1990 السلمية كمشروع سياسي وطني مستخدمين الشعارات الشعبوية المدغدغة لعاطفة جماهير الشمال المحبة للوحدة فإنه من الجائز – وفقا لهذه القاعدة – للقادة الجنوبيين أن يرفضوا وحدة 7 يوليه المعمدة بالدم كمشروع سياسي عصبوي غير وطني مستخدمين الشعارات الشعبوية المدغدغة لعاطفة جماهير الجنوب الكارهة للوحدة..وعلى الذين يشككون بوجود هذه الكراهية أن يذهبوا إلى مغامرة الاستفتاء.

 ثالثاً : “الأسباب المباشرة المنشئة للقضية الجنوبية“

 في 22 مايو 1990 وقع البيض لعلي صالح على رقة بيضاء..ومن الصعب على المتابع اللبيب أن يتقبل هذه الحقيقة إلا إذا علم أن اتفاقية الوحدة الألمانية تألفت من 1200 صفحة مقابل صفحة ونصف لاتفاقية إعلان قيام الوحدة اليمنية.. وبينما كان اليمنيون يطلقون زغاريد أفراح إعلان قيام دولة الوحدة كان علي صالح، وعلي محسن الأحمر ونظامهم العصبوي يضع حجر الأساس لحرب 1994..تؤكد هذا رواية عبد الله بن حسين الأحمر رئيس التجمع اليمني للإصلاح في مذكراته(ص248) حيث يقول:” طلب الرئيس منا بالذات مجموعة الاتجاه الإسلامي وأنا معهم أن نكون حزبا يكون رديفا للمؤتمر ونحن وإياكم لن نفترق وسنكون كتلة واحدة ولن نختلف عليكم وسندعمكم مثلما المؤتمر.إضافة إلى أنه قال: إن الاتفاقية التي تمت بيني وبين الحزب الاشتراكي وهم يمثلون الحزب الاشتراكي والدولة التي كانت في الجنوب وأنا أمثل المؤتمر الشعبي والدولة التي في الشمال وبيننا اتفاقيات لا أستطيع أتململ منها وفي ظل وجودكم كتنظيم قوي سوف ننسق معكم بحيث تتبنون مواقف معارضة ضد بعض النقاط أو الأمور التي اتفقنا عليها مع الحزب الاشتراكي وهي غير صائبة ونعرقل تنفيذها. وعلى هذا الأساس أنشأنا التجمع اليمني للإصلاح “.

بما أن الوحدة لم تكن بالنسبة للرئيس السابق صالح ونظام حكمه العصبوي مشروعا وطنيا فقد تعامل مع هذه المسألة تعاملا تكتيكيا، وفتح لنفسه ثغرات في جدار الوحدة الغض نفذ منها لتجريد نائبه من أي ندية معه بحجة عدم جواز أن يكون هناك سيفان في غمد واحد وأن الدولة لا يمكن أن تدار برأسين.. وفي المقابل لم يكن النائب يحوز على ضمانات موثقة تحد من قدرة الرئيس على تحجيم دوره والتلاعب بمصير دولة الوحدة..وقد حصل البيض على هذه الضمانات بأثر رجعي، ولكن في الوقت الضائع.. فبعد 22 مايو 1990 اكتشف البيض أن الميراث التاريخي للصراع بين الشطرين يملأ العاصمة صنعاء.. فالشراكة ” تقاسم غير عادل”..والحزب الاشتراكي “ملحد، وقاتل العلماء” ..والقيادة الجنوبية “هربت إلى الوحدة لا حبا فيها ولكن كي تتجنب مصير تشاوشيسكو رومانيا”.. والجنوب “جائع جاء يتطفل على خزائن الشمال بجيش جرار من الموظفين ومديونية عالية للخارج”..وهذه كلها شعارات تم ترويجها آنذاك؛ تمهيدا للانقضاض على الحزب الاشتراكي فيما بعد..ومع كل طلقة رصاص يسكب فيها الدم كان يقال:” الاشتراكيون يثأرون من الاشتراكيين”..هكذا من غير حاجة إلى دليل ..فالعاصمة تقرر كل شيء وتفرض إرادة المهيمنين فيها على القادمين إليها .. وفي هذا المناخ المأزوم اختار الرئيس صالح مؤقتا أن يأكل الثوم بأفواه فقهاء التجمع اليمني للإصلاح ليبقى هو يتربص متدثرا بقميص الوسطية والاعتدال.

 ارتاب البيض من “اعتدال ووسطية” الرئيس ومارس”اعتكافين” صامتين في معاشيق.. وأثناء الاعتكاف الثاني كان موعد الانتخابات النيابية يطرق الأبواب والشمال يحتوي على 80% من دوائر الجمهورية.. وهذه نسبة عالية وواعدة تستوجب أن يذهب الرئيس شخصيا إلى معاشيق يسترضي نائبه.. ويبدو أن النائب قال له: لن تكون هناك انتخابات حتى نوثق ما تعاهدنا عليه في تفاهمنا السري..ومن رحم هذا اللقاء الاسترضائي خرجت “وثيقة التنسيق والتحالف على طريق التوحيد بين الحزب الاشتراكي والمؤتمر الشعبي العام” التي أنهت الاعتكاف الثاني وهيأت المناخ السياسي لإجراء انتخابات أبريل 1993 النيابية.

  نصت الوثيقة على إدخال تعديلات جوهرية في الدستور بعد الانتخابات تتضمن إلغاء مجلس الرئاسة واستبداله برئيس ونائب ينتخبان من الشعب في قائمة واحدة، وتشكيل مجلس شورى تمثل فيه المحافظات بالتساوي ويشكل مع مجلس النواب جمعية وطنية يرأسها نائب الرئيس.. ونصت أيضا على أن تتمتع المحافظات وما دونها بحكم محلي كامل الصلاحيات وأن يجري انتخاب المجالس المحلية فور استكمال التقسيم الإداري للبلاد.

 وفي هذه الأثناء سافر البيض في رحلة علاجية إلى الولايات المتحدة الأمريكية..وأثناء غيابه استثمر الرئيس السابق صالح تحالفه القوي مع التجمع اليمني للإصلاح ووجه الأغلبية الشمالية في البرلمان بالتصويت على مسودة تعديلات دستورية تجاوزت كل ما أتفق عليه في الوثيقة المشار إليها أعلاه!! فلا صلاحيات دستورية للنائب.. ولا انتخاب للنائب مع الرئيس في قائمة واحدة..ولا جمعية وطنية يرأسها النائب..وفي هذه اللحظة بالذات اكتشف البيض أن انقلابا أبيضا قد تم وأنه لم يقد الجنوب إلى الوحدة والشراكة والديمقراطية والإصلاح وإنما إلى بيت الطاعة..وعليه الآن أن يسلم بشروط أرباب البيت ممثلا للجنوب مقابل تعيينه نائبا يدعو الله أن يحفظ الرئيس ويمثله في احتفالات الكشافة والمرشدات وإلا “فالصميل خلق من الجنة“.

   وبينما كانت الأزمة تتفاقم أوشكت الخمسة الأشهر التي مددها البرلمان لمجلس الرئاسة على الانتهاء. وحتى لا تدخل البلاد في فراغ دستوري أعيد انتخاب مجلس الرئاسة على أساس 2-2-1 حيث حل الشيخ عبد المجيد الزنداني عن التجمع اليمني للإصلاح محل المؤتمري القاضي عبد الكريم العرشي.. وظل نصيب الشمال في عضوية مجلس الرئاسة ثلاثة مقاعد مقابل مقعدين للجنوب..لكن وسائل الإعلام في صنعاء كانت توزع هذه المقاعد بين الأحزاب الثلاثة وليس بين الجنوب والشمال، وتتحدث عن نصيب للحزب الاشتراكي أكبر من حجمه في البرلمان وليس عن نصيب للجنوب أقل من حجمه في عملية توحيد البلاد.. وهذه قضية مازالت الأطراف المعنية في اليمن تتغافل عنها إلى اليوم وهي تفكر في حل أزمات البلاد.

 وبانتخاب مجلس الرئاسة على هذا النحو لمعت في الأفق بارقة أمل..لكنها سرعان ما تلاشت عندما أذاعت وسائل الإعلام الرسمية أن مجلس الرئاسة انتخب علي عبد الله صالح رئيسا وأن الرئيس عين علي سالم البيض نائبا له.. وهذا مخالف لاتفاق قضى بإخراج موقع نائب الرئيس على النحوالتالي: ” اجتمع مجلس الرئاسة بأعضائه الخمسة وانتخب علي عبد الله صالح رئيسا وعلي سالم البيض نائبا للرئيس”..وقد ترتب على مخالفة هذا الاتفاق أن اعتذر البيض عن الحضور إلى صنعاء لأداء اليمين الدستورية يوم 16 اكتوبر 1993 .

ولأن الوحدة لم تقم ابتداء على الدمج وإنما على الجمع الميكانيكي أو المجاورة بين حقائق دولتين فقد بقي الريال مجاورا للدينار وطيران اليمدا مجاورا لطيران اليمنية وتلفزيون عدن مجاورا لتلفزيون صنعاء وصحيفة 14 أكتوبر مجاورة لصحيفة الثورة، وقس بقية الحقائق على هذا المنوال بما في ذلك البرلمان والحكومة اللذين لم يدمجا، وإنما جمعا ميكانيكيا.

 ولأن البرلمان لم يكن مؤهلا للوقوف على مسافة واحدة من الرئيس ونائبه خرجت الأزمة من أقبية الائتلاف الثلاثي إلى فضاء الحوار الوطني الموسع.. ونتج عن ذلك تشكيل لجنة حوار القوى السياسية التي شخصت الطابع الوطني العام للأزمة وصاغت الحل في وثيقة العهد والاتفاق الموقع عليها بشكل نهائي في العاصمة الأردنية بتاريخ 20 فبراير 1994 ..لكن ميزان القوى في البلاد وقتها لم يكن لصالح بناء الدولة من خلال تطبيق الوثيقة الأمر الذي يفسر الاندفاع السريع نحو الحرب.

 وبسبب المجاورة والجمع الميكانيكي الذي بنيت على أساسة دولة الوحدة، احتفظت حقائق كل دولة بتبعيتها البنيوية للنظام الذي أنتجها.. وكان مجلس الرئاسة يدير حقائق دولتين يتوقف نوع العلاقة بينها على نوع العلاقة بين الرئيس صالح ونائبه علي سالم البيض.. لذلك قيل: إن الوحدة لم تتحقق عمليا إلا من خلال العلم والنشيد الوطني.. لكن الخطورة الكبيرة في هذا الإجراء مثلتها وحدات الجيش التي تجاورت من غير دمج ثم انزلقت بسهولة نحو الحرب متأثرة بمناخ الأزمة السياسية ألتي أعقبت انتخابات أبريل 1993 النيبابية.

  هنا نلاحظ أن دولة الوحدة المفترضة كانت عمليا دولة منقسمة..وهذا الانقسام بني بناء.. وكأننا إزاء اتحاد كونفدرالي..ولأن نظام الشمال لم يكن مؤمنا بقضية الوحدة كمشروع سياسي وطني؛ فقد أعاق عملية دمج حقائق الدولتين في إطار مخطط مدروس لتصفية الكيان الاعتباري لدولة الجنوب بمختلف مكوناته وشخوصه من خلال التطويق الإداري وعدم التمكين من ممارسة الصلاحيات والتحريض الأيديولوجي بشقيه السياسي والديني ثم الاغتيالات التي طالت العشرات من كوادر الاشتراكي..ثم جاءت حرب 1994 لتقضي على دولة الجنوب وتكرس دولة الشمال وتقضي على وحدة 22 مايو 1990 الطوعية وتفرض على الجنوب وحدة 7 يوليه 1994 التي يرفضها أغلب الجنوبيين تقريبا.

 وبهذا فإن حرب 1994 قضت عمليًا على حقائق دولة الجنوب وفرضت حقائق دولة الشمال على اليمن كله..وبذلك حكمت على مخطط الوحدة بالفشل وكرست النظام السياسي للجمهورية العربية اليمنية مع الإبقاء على بعض مكتسبات الوحدة كالتعددية السياسية والانتخابات الدورية للإيحاء بأن الوحدة القائمة هي وحدة 22 مايو 1990 السلمية المقترنة بالديمقراطية وبأن حرب 1994 كانت اضطرارية للقضاء على خطر الانفصال وليس لإفشال مخطط الوحدة وابتلاع الجنوب.

 خرجت أزمة الوحدة إلى العلن في أغسطس 1993 واعتقد كثيرون أنها انتهت بحرب 1994..غير أن الحرب لم تنه الأزمة وإنما عمقتها وأفرزت لاعبين سياسيين جددا وبدلت تموضعات فاعلين قدامى، فبدت الآن أكثر تعقيدا حيث أصبح جزء كبير من أبناء الجنوب يجاهر في زمن الوحدة بما لم يهمس به أحد في زمن التشطير.. وهذا دليل قاطع مانع على أن حرب 1994 أصابت الوحدة اليمنية بجروح لن تندمل إلا بتغيير النظام المنتج للحروب وإعادة صياغة الوحدة اليمنية على النحو الذي يضمن شراكة حقيقية للجنوب في السلطة والثروة غير مهددة بالتفاوت الكبير في تعداد السكان.

 نتائج حرب 1994 تؤكد أن دولة الوحدة وليس الوحدة هي موضوع الخلاف الذي كان..ومعنى ذلك أن ميزان القوى عند إعلان الوحدة كان ممانعا لبناء الدولة..وإذا كان الشمال حينها هو الطرف الأقوى في معادلة القوة فالممانعة كانت شمالية ومن قبل أطراف ومراكز نفوذ لها مصلحة في أن لا تكون هناك دولة تساوي بين كل اليمنيين..

 ومهما اختلف اليمنيون في مقدمات حرب 94م، لكن لا يوجد بينهم اليوم من يجرؤ على رفع صوته دفاعا عن النتائج..إنما يوجد من يلقي باللائمة كلها على الطريقة التي أدار بها علي عبد الله صالح البلاد بعد الحرب..فالمشكلة عند هؤلاء ليست في الحرب وإنما في طريقة إدارة البلاد بعد الحرب..وهذا رأي من الصعب على العقل أن يتقبله إلا إذا استطاع أصحابه أن يثبتوا أن طريقة إدارة علي صالح للبلاد قبل الحرب تختلف عن طريقة إدارته لها بعد الحرب..أما نحن فلدينا من الوقائع ما يكفي لإثبات أن حرب 1994 لم تكن دفاعا عن الوحدة وإنما دفاعا عن هذه الطريقة في إدارة البلاد..الطريقة التي قامت على اختزال الدولة في شخص الرئيس.

 أما على المستوى الاجتماعي، الذي تغفله كل الرؤى و التناولات الخاصة ببحث القضية الجنوبية، فإن أمرا خطيرا كان قائما في الشمال ويتمثل في الوعي العام السائد لدى غالبية أفراد المجتمع تجاه “الجنوب” و”الاشتراكية”، فلم يكن حلم “الوحدة” مطروقا لدى غالبية مواطني الشمال، بل كان شعارا قائما فقط لدى النخب، والأخطر أن الخطاب الديني الحليف لنظام صالح، والمدعوم منه، ظل يقدم الجنوب قبل الوحدة وبعد توقيع اتفاقيتها بأنه “جنوب ملحد”.. وعلى هذا الأساس حظيت حرب 94م بزخم جماهيري منقطع النظير من قبل مجتمع الشمال. وهذا يستلزم من كل النخب السياسية في الشمال التحلي بالشجاعة والاعتراف بأن الكتلة السكانية هنا عاشت طويلا تحت مظلة التضليل والخداع ما جعلها خزان دعم لا ينفد لكل السياسات الإقصائية والعدائية بحق الجنوب.

 وفي الأخير: فإنه لا يمكننا إغفال الضرر الذي نتج عن الاستعجال في الدخول إلى الوحدة مباشرة دون منح كل شطر مرحلة انتقالية – قبل إعلان الوحدة – من سنتين إلى ثلاث سنوات ليتمكن خلالها من معالجة بعض الملفات الداخلية لديه بما ينسجم ونظام الدولة الجديدة، عبر تهيئة الأوضاع من الناحية السياسية في الشطرين كإقرار التعددية الحزبية والتصالح مع الماضي، والاقتصادية عبر التمهيد للتحول إلى النظام الجديد، ومعالجة ملف التأميم في الجنوب مثلًا، بما يمكنه من الدخول إلى الوحدة بقوة وثبات، ليكون شريكًا فاعلًا، كما أن تلك الفترة كانت ستمثل اختبارًا لمدى التزام كل طرف بما تم الاتفاق عليه؛ وبالتالي ستحدد إمكانية الدخول في الوحدة أو التريث إلى أن تتهيأ الأوضاع في فترة لاحقة؛ لتضل الوحدة حلمًا جميلًا إلى أن يتم تحقيقها على أسس علمية مدروسة.

 رابعًا: الخلاصة

 من ما سبق يمكننا تلخيص جذور القضية الجنوبية في التالي:

 1- إخفاق سياسيي وحسن نية زائدة لدى القيادة الجنوبية ممثلة بقيادة الحزب الاشتراكي وقتها في قراءة المشهد داخل الشمال والتوقيع على وثيقة الوحدة دون إعداد خطة استراتيجية “مرنة تجاه المتغيرات”  أو دراسة وافية لما بعد التوقيع، ومع أننا نعترف أن الحزب كان يملك مشروعًا وطنيًا طموحًا، لكنه لم يكن يملك البرنامج التنفيذي التفصيلي اللازم لتطبيقه على أرض الواقع، وإذا ما قارنا بين اتفاقية الوحدة اليمنية المكونة من صفحة ونصف وبين اتفاقية الوحدة الألمانية المكونة من 1200 صفحة عندها سندرك حجم الخطأ الذي تم ارتكابه.

 2-  النية المبيتة للنظام العصبوي الحاكم وقتها في الشمال؛ للاستئثار بدولة الوحدة واستئصال الشريك الجنوبي واعتبار الوحدة خطوة تكتيكية لضم الجنوب إلى نظام دولة الشمال ( ظهر ذلك جليًّا في المقطع المأخوذ من مذكرات عبدالله الأحمر)، وتراجعه عن اتفاقية الوحدة والاتفاقات اللاحقة – مع القيادة الجنوبية ممثلة بعلي سالم البيض- ووثيقة العهد والاتفاق التي حظيت بإجماع وطني.

 3- إن توحيد دولتين ودمجهما ليس عملية بهذه السهولة التي تم التعامل بها من قبل نظامي الشطرين، ومن قبل النخب السياسية اليمنية بشكل عام؛ حيث إنه لم يتم عمل أي فعاليات بحثية واستقصائية وورش عمل ودراسات إدارية اقتصادية دميوغرافية، كتمهيد لإطلاق عملية التوحيد، حتى تضمن عدم حصول أضرار بالغة بأي من جانبي المجتمع بسبب تبني الدولة الوليدة لنظام سياسي أو إداري أو اقتصادي جديد؛ وهذا ما خلق ضررًا اقتصاديًا طاحنا في المحافظات الجنوبية التي تحولت فجأة إلى نظام السوق واقتصاد رأس المال.

 4- الوعي العام، بالغ السلبية، لدى أكثرية المجتمع في الشمال تجاه الجنوب والتجربة الاشتراكية، بحيث تظافر هذا الوعي، معززا بالخطاب الديني، مع نوايا الاستئصال السياسي القائمة لدى قيادة تحالف حرب 94م (العسكري والقبلي والديني)، وحين اندلعت حرب 94م كان الرأي العام في الشمال في أوج الجاهزية لدعم هذه الحرب بمبررات “تكفيرية” تجاه الآخر الجنوبي.

 5-  حرب 94 م وما تبعها من استباحة للجنوب أرضًا وإنسانًا ” وسيأتي تفصيل ذلك في محتوى القضية الجنوبية “، والقضاء على دولة الوحدة وتطبيق نظام دولة الشمال العصبوي الذي كان قائما قبل الوحدة على اليمن ككل بعد حرب 94م

زر الذهاب إلى الأعلى