كتابات

دماج… سقوط الأقنعة

397160_250806461665308_1928674933_n

* د . محمد بن موسى العامري

لم تكن هذه النتيجة التي آل إليها أمر طلاب دماج من التهجير القسري بعيدة عن التوقعات أو المألوف في مثل هذه الحروب الطائفية التي تخوضها قوى ممولة بأنواع الأسلحة والعتاد ومدعومة دولياً وإقليميا ضد جماعة لا تملك عشر معشار ما لدى خصومها فضلاً عن كونها في حقيقة أمرها لا تخرج عن كونها مدرسة علمية تمتلك من الكتب والأقلام أكثر مما تملكه من السلاح والذخيرة في مساحة من الأرض لا تتجاوز3 كيلو مترات وفي منطقة كل ما حولها خاضع لسلطان خصومها ومستسلم لأمرها. ومع ذلك فقد أثبتت للعالم صبراً وجلداً طيلة ما يقارب مائة يوم جعلها أشبه ما تكون في مقياس الحروب وحكاياتها بالأساطير والخيالات، أو لِنَقُل بالكرامات والعنايات. ولقد كانت هذه الحرب الظالمة من قبل جماعة الحوثي كاشفة لأقنعة كثيرة ما كان لها أن تبرز للعيان لولا وجود هذه المعركة العبثية وهو ما يجعنا نتذكر قول الله سبحانه وتعالى : {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] وقوله تعالى : { لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } [النور: 11] فأول قناع كشفته هذه الحادثة مدى العداوة والبغضاء التي تكنها جماعة الحوثي لمن يخالفها في الفكر والوجهة وأنها قد اختارت للوصول إلى دولتها العنصرية مسار القتل والتهجير والتشريد ليس فقط لتيار بعينه, وإنما لكل من يرى خلاف رأيها فكرياً وسياسياً وغير ذلك وما هذه العملية التهجيرية بعد عملية الحصار والقتل إلا نموذجاً لما سبق من عشرات الآلاف من المهجرين من أبناء صعدة وما سواها. وثاني قناع كشفته هذه الحادثة تلك الدعاوى الدعائية التي تطلقها جماعة الحوثي في إعلامها عن رحابة صدرها وقبولها بالتعايش السلمي مع مخالفيها برغم ما تجلى لكل ناظر من ضيق عطنها ومسلكها الإقصائي في تعاملها!!. وأما ثالث الأقنعة التي كشفت فهو حجم جماعة الحوثي عسكرياً وبيان أن عمدتها في كل ذلك يقوم على التهويل والترويع الإعلامي واستعراض الجماهير المنخدعة بشعاراتهم مستغلين في ذلك بعض المناسبات التقليدية أو الموسمية وقد أكد هذه الحقيقة ذلك العجز الذي صاحبها طيلة ثلاثة أشهر عن التقدم شبراً واحداً في قرية دماج المحاصرة وتراجعها عن اقتحام المنطقة بالقوة حتى جاءها الفرج بالصلح الذي وإن بدى في ظاهره أنه انتصار لها إلا أنه في حقيقة الأمر هزيمة ظاهرة من الناحية العسكرية. ورابع الأقنعة من الناحية الأخلاقية والدينية هو التستر بقناع نصرة الإسلام ومحاربة اليهود وعداوتهم وإعلان الولاء لأهل البيت وترسم خطاهم، وهي الخدعة الكبرى لأهل اليمن للوصول إلى السيادة عليهم وتملك زمامهم وفرض الوصاية عليهم ومصادرة إرادتهم في اختيار من يحكمهم بدعاوى الاصطفاء!! هذا القناع الذي كشفته جميع أحداث هذه الجماعة وتبدى لكل ذي عينين أن القتل والعداوة والتهجير والتشريد إنما هو لأبناء الشعب اليمني بمختلف توجهاته أما اليهود وأعداء الإسلام فهم من هذه الشعارات في كامل الأمن والأمان . وأما خامس الأقنعة المنكشفة فهو الموقف الرسمي الذي بدى مخذولاً ومتقاعساً وعاجزاً عن القيام بمسؤوليته في حماية المواطنين كما بدت أطراف أخرى متواطئة مع هذه الجريمة والإبادة الجماعية راضية تمام الرضا بما يجري لهؤلاء الطلاب!! فالجيش المتواجد في محافظة صعدة والمكون من سبعة ألوية أصبح أسيراً ومحاصراً لا يستطيع أن يحمي نفسه فضلاً عن قيامه بحماية المواطنين. والدولة كذلك اكتفت بدور الوساطات التي ظلت مذبذبة ومضطربة في مواقفها لا تفرق بين الظالم والمظلوم والضحية والجلاد, وانتهى بها الحال بدلاً من أن توجد حلاً للمشكلة إلى أن تخلق مشاكل جديدة من تعميق الصراع المذهبي والطائفي بإشرافها المخزي على عملية التهجير وضرب حقوق المواطنة المتساوية في مقتل، والتأسيس لمبدأ الكراهية المناطقية والطائفية. وسادس الأقنعة يتعلق بالقوى السياسية المختلفة التي ظلت تراقب المشهد من بعيد وتنتظر ما تسفر عنه الأيام مكتفية بأن تحل المشكلة نفسها في ظاهر الأمر ومباركة لما يجري في باطن الأمر لمكاسب سياسية! وأما سابع الأقنعة فهو قناع المندسين والمرجفين والمخذلين الشامتين من الأقربين والأبعدين الذين غابت عنهم المقاصد العامة وحضرت لديهم الخصومات الخاصة وحظوظ أنفسهم وضلت عنهم حقيقة الصراع وتاهوا مع التائهين ومارسوا أدوار {الَّذِينَ قَالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } [آلِ عِمْرَانَ:168 ودور الذين يتربصون بكم والذين {َقَالُوا لإخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 156] متذرعين في ذلك بالحكمة والمصلحة !!. وكأن أبناء دماج كانوا معتدين ولم يكونوا مدافعين عن أنفسهم مع أنه حق لهم إن شاءوا تمسكوا به وإن شاءوا أسقطوه والتمسك به أولى كما هو مقرر في الشريعة الإسلامية. وحتى لا نغفل عن قوله {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] فلا بد من الاعتبار والعظة والإيمان بقوله سبحانه وتعالى {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] وقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} فهناك ممارسات وأخطاء ومظالم وقع فيها طلاب العلم في دماج لا نبرؤهم منها سواء كانت تتعلق بمنهجية التعلم أو التفريط في سنن الله وعدم استيعاب وسائل العصر في الحصول على الحقوق وإهمال سنة التدافع مع انتهاج العزلة عن معرفة شؤون الحياة أو كانت تتعلق بخصومات ومعارك جانبية مع من لا يستحقها من مخالفيهم من علماء ودعاة وجماعات وأحزاب إسلامية تحت ذرائع الجرح والتعديل أو الخلط وعدم التفريق بين حقوق الأخوة والنصيحة, مع ضعف شديد في معرفة فقه الخلاف والائتلاف, أو كان ذلك يتعلق بالغلو أو التشدد في بعض جوانب الأحكام وتنزيلها بصورة خاطئة. والواقع أن مثل هذه الإشارات قد تكون غير مناسبة في فترة الحرب والحصار لما قد تفضي إليه من إعانة الظالم على المظلوم لكن في هذه اللحظة نحن أحوج ما نكون إلى التناصح لأن الدين النصيحة ومن داهنك فقد غشك ولم يقم نحوك بواجب الإخوة فالنصرة للمظلوم والوقوف إلى جانبه مطلب شرعي وحق من حقوق الأخوة الإسلامية والتناصح برفق وصدق كذلك أيضاً من المطالب الشرعية . ولا يعد ذكر مثل هذه الأمور من المثالب التي توجب الفرقة والبغضاء أو توهن عرى إخوة الدين فالعصمة ليست إلا للرسل والقوم لهم محامد في تعليم القرآن ونشر السنة بين الأنام والعبرة بما غلب من الحسنات وقد عوتب أفضل الناس وأطهرهم بعد الرسل وهم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم كما في أحد ويوم حنين فغيرهم من باب أولى أن يعاتبوا. كما أن هناك تقصيراً ظاهراً وقعنا فيه جميعاً كقوى دعوية و سياسية ومجتمعية أمام هذه الانتهاكات والممارسات العدوانية التي أدت إلى التمادي والغرور لدى جماعة الحوثي حتى أيقنت بأن أهل دماج لا بواكي لهم فأسرفت فيهم قتلاً وتنكيلاً بمرأى ومسمع من الجميع مستغلة عزلة الجماعة وخصوماتها لمخالفيهم وغياب الدولة عن بسط نفوذها و متناسية عاقبة الظلم في الدنيا قبل الآخرة قال سبحانه: (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) ، (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ(، وأعتقد أن الدروس والعبر كثيرة من قصة دماج قد يكون من المفيد أن تخصص بسفر أو دراسة أكاديمية نستفيد منها، أو تستفيد منه الأجيال القادمة. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* رئيس اتحاد الرشاد اليمني

زر الذهاب إلى الأعلى