كتابات

مناقشة تولي الإسلاميين السلطة /محمد بن شاكر الشريف

images (1)

محمد بن شاكر الشريف

ما إن قامت الثورات في بعض البلدان وتحقق لها النجاح في إزالة الأنظمة الطاغوتية التي كانت تجثم على صدور الشعوب بمختلف طوائفها وخاصة الإسلاميين الذين كان لهم النصيب الأوفى من موجات العسف والظلم والطغيان، وبدا أن هناك إمكانية أن تسترجع الشعوب حقوقها التي سُلبَت منها عقوداً طويلة؛ من خلال قدرتها على أن تولِّي بإرادتها مَن تثق في دينه وأمانته وكفايته وقدرته على تحقيق آمال الشعوب وتطلُّعاتهم، وشعر الإسلاميون – باعتبارهم مكوناً أساسياً، بل المكون الأساسي الغالب لهذه الشعوب – أنه ليس من الحكمة العزوف عن المشاركة السياسية ومغالبة القوى غير الإسلامية التي تريد إخفاء هوية الأمة وَجَعلِها تابعة للمنظومة الفكرية العلمانية أو الليبرالية، ورأت أن في عدم المشاركة بقصد المغالبة نوعاً من المساعدة لتلك القوى المناوئة لهوية الأمة التي تريد أن تحرفها بعيداً عن منابعها الأصلية في تحقيق مشروعها. لذا فقد قرر التيار الإسلامي بفصائله المتعددة خوض غمار تلك المغالبة، التي تكون نتيجتها – عندما يتحقق للإسلاميين الغلبة على بقية الاتجاهات كما هو متوقع – أن يحوز السلطة بكاملها؛ سواء تشكيل الحكومة التي تكون تعبيراً عن التمكن من المجلس النيابي أو تولِّي رئاسة الدولة. وإزاء إمكانية تحقق هذا المتصوَّر بل ربما يكون هو الأقرب للحدوث، فقد ارتفعت بعض الأصوات محذِّرة من تولِّي الإسلاميين السلطة، وهذه الأصوات تنتمي إلى اتجاهيين عقديين متباينين التباين كله ومتنافرين التنافر كله:

الاتجاه الأول: اتجاه يتحالف فيه العلمانيون والليبراليون والنصارى وفلول الأنظمة البائدة يحذِّرون فيه من تولي الإسلاميين للسلطة؛ لما في ذلك من تأثير سلبي على تلك الاتجاهات ويتوجهون بخطابهم هذا للخارج وللسلطات الحاكمة ولعامة الشعب مستخدمين في ذلك الكذب والتهييج؛ رغبة في استعداء الأنظمة وعامة الشعوب على الإسلاميين.

الاتجاه الثاني: اتجاه إسلامي خالص يحذِّر أيضاً من تولِّي الإسلاميين السلطة ولكن من منطلَق آخر، وهو: خشيتهم من إخفاق الإسلاميين عند تولي السلطة في عدم قدرتهم على تحقيق ما كانت الشعوب تأمَل فيه وتصبو إليه وتعقد عليهم فيه الآمال العريضة، وهم على عكس الطائفة الأُولَى؛ إذ يقولون ذلك بدافع الخشية والخوف على التجربة الإسلامية، ويتوجهون بالتحذير للداخل الإسلامي من قبيل النصح عند هذه الطائفة وليس من منطلق الاستعداء.

 ومقصود هذه المقالة مناقشة الاتجاه الثاني؛ لأنه من داخل البيت الإسلامي، وإصلاح الداخل مقدَّم على إصلاح الخارج؛ فماذا يقدم الاتجاه الإسلامي من حجج تدعوه إلى إطلاق هذا التحذير؟

يقدم هؤلاء عدداً من المسوغات من وجهة نظرهم، تتلخص في ما يلي:

1 – أن النظام البائد أفسد البلد في كل مجال: حيث مكث عدة عقود يفسد ما وسِعَه الإفساد؛ ولن يستطيع أحد يتولى الأمر بعد هذا الفساد أن يصلح الخلل العميق الذي أصاب كل شيء بما في ذلك الإنسان والحيوان والجماد. لذا فهم يتخوفون أن يرتد الفشل المتوقَّع إلى الإسلام نفسه؛ حيث يُحَمَّل الإسلام وِزْر أوضاع وخطايا لم يكن هو المنشأ لها بل لم تكن له بها أدنى علاقة أو صلة من قَبْل.

2 – الغربة الشديدة التي يعيشها الشعب عن الإسلام وشرائعه: حيث كانت همة الأنظمة من خلال وسائل الإعلام المتعددة متوجهة إلى إفساد العقائد والعبادات والأخلاق والعقليات، ومن المتوقع أن تتسبب هذه الغربة في نفورٍ شديد من التطبيق الصحيح للأحكام الشرعية؛ وخاصة في ما يكون وَقْعُه شديداً على النفس مما فيه منع الشهوات الباطلة التي أَلِف كثيراً منها كثيرٌ من الناس.

3 – ضعف الخبرة السياسية لدى الاتجاهات الإسلامية لحداثة عهدها بالممارسة السياسية: وهذا قد لا يمكِّنها من إجادة سياسة الرعية؛ حيث يترتب على ذلك وجودُ احتقانات كثيرة بين الإسلاميين والشعب، تؤثِّر على تجاوب الشعب مع ما تدعو إليه القوى الإسلامية من حيث الرجوعُ إلى الشرع والتمسكُ به وتطبيقُه في واقع الحياة لتكون الشريعة هي المرجع في الأحكام كما أن العقيدة هي الحاكمة على العقائد.

4 – وجود الأقليات – سواء منها الدينية أو الأيديولوجيات العقدية – التي قد تختلق الذرائع لعمل قلاقل في البلد تمهيداً لإحداث فتنة يترتب عليها تدخُّل أجنبي، وبذلك يسقط المشروع الإسلامي برمَّته.

5 – عدم موافقة الغرب وعلى رأسهم الدول الاستعمارية الناشئة كأمريكا والعتيدة كفرنسا على قيام حكم إسلامي في البلدان العربية، وهو ما يؤذن بمواجهة لا نستطيع خوضها الآن.

ومن ثَمَّ فإن أصحاب هذا الاتجاه مع عدم تولي الإسلاميين للسلطة في الوقت الحالي في مقابل أن يمسكها أناس وطنيون تهمُّهم مصلحة البلد في المقام الأول؛ وذلك إلى أن تصلح أحوال البلد وتستقر أركانها من غير أن تعترضها العراقيل السابقة، وحينئذٍ يمكن للإسلاميين أن يتقدموا لتولِّي السلطة. هذا – تقريباً – هو كل ما أمكنني جمعُه من حجج الغيورين على الدين الحريصين على بلادهم.

 والجواب على ذلك يكون من خلال نظَرَين: نظر إجمالي، ونظر تفصيلي:

الجواب الإجمالي:

أقول: إن العراقيل والعقبات كانت وما زالت تعترض طريق الدعوات، ولن يأتي اليوم الذي تزول فيه تلك العقبات حتى ننتظره، وأن الانسحاب من المواجهة والأخذ بزمام المبادرة ليس الحل الصواب بل الانسحاب والهروب من المواجهة وتحُّملِ التبعات هو الذي يصيب الدعوات في مقتل، ثم يقال: لو كانت الأمور يمكن أن تنصلح من خلال قيادات غير إسلامية وتحت مظلة غير إسلامية، فما الحامل الذي يدعو الناس لاختيار الإسلاميين بعد ذلك وقد رأوا إحجام الإسلاميين وهروبهم من مواجهة التحديات في الوقت الذي أقدم غيرهم وواجهوا التحديات واستطاعوا من خلال منهجهم وجهودهم تصحيح الأوضاع وتحقيق الآمال، ثم يقال أيضاً: إن الإسلام قادر على العمل في جميع الظروف والبيئات وتحقيق ما يدعو إليه من الإصلاح في جميع المجالات، ولو قيل: إن الإسلام لا يقدر على العمل إلا في بيئة صالحة. لكان في هذا القول إنقاص من قدره وطعن فيه.

الجواب المفصل:

1 – بخصوص المسألة الأُولَى نقول: إنَّا لا نشك أبداً في أن النظام البائد أفسد كل شيء في حياة الناس، كما لا نشك أيضاً في أنه لا يوجد منهج قادر على الإصلاح الصلاح الكامل التام في جميع المجالات من غير نقص أو اعتداء على حقوق الناس غير الإسلام بشريعته الكاملة السمحاء التي حكمت ديار المسلمين عدة قرون فكانت مصدر عزتهم وقوَّتهم وظهورهم على الناس أجمعين. وكل منهج مغاير للإسلام لا يملك الإصلاح في جميع المجالات، فإنه وإن كان يملك إصلاحاً في جانب فإنه يفسد في جوانب أخرى وحتى الجانب الذي يصلح فيه فإن إصلاحه غير كامل، ولو أردنا أن نضرب مثالاً قريباً على ذلك فعندنا الأزمة المالية التي تعصف الآن بالأسواق الغربية التي تتبنى النهج الرأسمالي حتى اضطرتهم إلى أن يطالب كبار الاقتصاديين بتطبيق الأحكام الشرعية الإسلامية في هذا الجانب للخروج من هذه الأزمة الطاحنة، وضماناً لعدم تكرارها، وصدق الله -تعالى – حيث يقول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْـحَقُّ} [فصلت: 53].

2 – بخصوص المسألة الثانية وهي غربة الإسلام التي تحيا فيها الشعوب وإمكانية النفور من تطبيق بعض الأحكام الشرعية، فيقال: لا شك في وجود هذه الغربة ولا شك في وجود طائفة من الناس قد تنفر من تطبيق بعض الأحكام، لكن يقال في المقابل: إن عدم تولي الإسلاميين للسلطة وتوليها من قِبَل بعض الوطنيين – ولو كانوا مخلصين لوطنهم أشد الإخلاص – لن يحل هذه المشكلة بل قد يفاقمها، وإنَّ تولِّي الإسلاميين للسلطة هو الكفيل بالعمل على إزالة الغربة وإزالة ما ران على القلوب تجاه بعض الأحكام الشرعية بفعل تلك الغربة السالفة؛ وذلك عن طريق الإعلام الذي يمكن تسخيره للقيام بهذه المهمة؛ بل لا أحسب أني ابتعدت كثيراً عن الصواب حين أقول: إن حرص غير الإسلاميين على عدم تولي الإسلاميين السلطة هو ما يتحسبونه من هذه النقطة التي قد يترتب عليها تغيير شامل في المجتمع؛ خاصة إذا كانت السلطة تدعم هذا المسلك وتقف خلفه، وكلنا يدرك ما تقوم به بعض القنوات الإسلامية – على ضعفها وقصورها – من نشر الوعي بين المسلمين وتفقيههم في أمر دينهم حتى عمت المظاهر الإسلامية طبقات واسعةً من الشعب ما كان يُظَن أن تصلها هذه المظاهر يوماً من الدهر ، ولعل هذا ما دعا بعض الأنظمة قبل زوالها إلى غلق تلك الفضائيات.

ومن زاوية أخرى فإن في السياسة الشرعية ما يكفل مواجهة مثل هذه الأمور – التي يجهلها الناس وقد ينفرون منها في بادئ الأمر – مواجهة حسنة تكفل الحفاظ على الدين وعدم تجاوز أحكامه وتكفل في الوقت نفسه تجاوب الشعب مع ذلك والرضا به والاطمئنان إليه، وهذا المنهج تمثِّله تلك المحاورة الدائرة بين عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز وأبيه؛ إذ قال عبد الملك لأبيه عمر: «يا أميـر المؤمنـين! ما تقول لربك إذا أتيته، وقد تركت حقاً لم تحيـه وباطـلاً لم تمته؟ فقال: يا بني! إن أباك وأجدادك قد دعوا الناس عن الحق، فانتهت الأمور إليَّ، وَقِيلَ أَقْبَلَ شَرُّهَا وَأَدْبَرَ خَيْرُهَا؛ ولكن أليس حسناً وجميلاً ألا تطلع الشمس عليَّ في يوم إلا أحييت فيه حقاً وأمت فيه باطـلاً، حتى يأتيني المـوت، فـأنا علـى ذلـك؟ وقـال له أيضـاً: يا أمير المؤمنـين! انْقَـد لأمـر الله، وإن جاشت[1] بي وبك القـدور. فقال: يا بني! إن بادهـتُ[2] النـاس بما تقـول أحوجـوني إلى السـيف، ولا خير في خير لا يحيـا إلا بالسيف»[3]، وفي لفـظ آخـر: أن عبد الملك بن عمر قال لأبيه: «ما يمنعك أن تمضي للذي تريد؟ والذي نفسي بيده! ما أبالي لو غلت بي وبك القدور، فقال: الحمد لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على هذا الأمر، يا بني! لو تأهب [لعلها: بادهت] الناس بالذي تقول لم آمن أن ينكروها فإذا أنكروها لم أجد بُدّاً من السيف، ولا خير في خير لا يجيء إلا بالسيف، إني أروض الناس رياضة الصعب؛ فإن يطل بي عُمُر، فإني أرجو أن ينفذ الله مشيئتي، وإن تغدو عليَّ منية فقد علم الله الذي أريد»[4]، وروى الخلال بسنده أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز قال لأبيه: «يا أبت! ما يمنعك أن تمضي لما تريده من العدل؟ فوالله! ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك، قال: «يا بني! إني إنما أروض الناس رياضة الصعب، إني أريد أن أحيي الأمر من العدل، فأؤخر ذلك حتى أُخرِج معه طمعاً من طمع الدنيا، فينفروا من هذه، ويسكنوا لهذه»[5].

فهذه السياسة الحكيمة وما جرى مجراها تكفل إحياء ما اندرس من الدين في الوقت الذي لا ينفر منه الناس، وكون الإنسان يتصور أنَّ تولِّي الإسلاميين السلطة يعني عدم مراعاة هذه الأمور، وأنهم سوف يصطدمون بالناس بمجرد توليهم وإجبارهم على فعل ما يجهلونه أو ترك ما يألفونه، فهذا تصوُّر وظن لا يعضده شيء.

بخصوص المسألة الثالثة من حيث عدمُ الخبرة التي قد تُنتِج عدم القدرة على سياسة الرعية سياسة حسنة، فيقال: إنْ صَدَقَ هذا الكلام فإنما يصدق على فصيل معيَّن ولا يصدق على التيار الإسلامي كلِّه؛ فالتيار الإسلامي – بلا شك – فيه خبرات كثيرة جيدة، لها دربة متنوعة وفي مجالات متعددة تمكِّنها من السياسة الحسنة كما أن تراثنا العلمي والفقهي مملوء بنماذج رائقة في كيفية سياسة الرعية، ثم يقال أيضاً: إن تولِّي الإسلاميين للسلطة لا يعني إقصاء أهل الخبرة الأمناء من التيارات الوطنية الجادةِ الساعيةِ في خير أوطانها وصلاحها إذا لم يكن لها مشروع أيديولوجي قائم على محاربة الإسلام، بل إن تولي الإسلاميين للسلطة لا يمنع من الاستفادة من غير المسلمين وتعيينهم في الوظائف – ولو كانت كبيرة ومهمة – ما دام ليس فيها ولاية على المسلمين.

وأخيراً يقال: لو كان ما يُذكَر من عدم الخبرة السياسية حقاً فإن عدم تولِّي الإسلاميين السلطة لن يحل هذه المشكلة بل إن السعي في تولي السلطة وتولِّيها بالفعل هو الذي سيساعد على القضاء على ضعف الخبرة؛ فاكتساب الخبرة عن طريق العمل أسرع وأفضل بكثير جداً من الدراسة النظرية.

وبخصوص المسألة الرابعة ومسألة وجود الأقليات التي تختلق الذرائع تمهيداً للتدخل الأجنبي؟ فإن الجواب أن يقال: إن الأقليات موجودة سواء تولَّى الإسلاميون السلطة أم تولاها غيرهم، وتأخير تولِّي الإسلاميين للسلطة لن يكون فيه حل لهذه المشكلة بل ربما تفاقمت بتولي غير الإسلاميين كما شاهدنا في بعض الأنظمة التي تعطي للأقليات ما ليس لها بحق نوعاً من الرشوة لها حتى ترضى عنها الدول الغربية. ثم قول: إن الظن أنه بمجرد تولِّي الإسلاميين فستظهر القلاقل والعقبات قائم على التصورات والظنون؛ فإنه مع حُسْن التعامل من جهة والحزم من الجهة الثانية لن يكون عند عوام الأقليات الدافع لإثارة القلاقل كما عند النخب الذين لن يرضيهم إلا إقصاء الإسلاميين كافة، كما أن تصوُّر تدخُّل الدول الأجنبية عند حدوث أية قلاقل تصوُّر غير جيد بل لا يُتَصوَّر التدخل إلا عند وجود مذابح للأقلية أو نحو ذلك وهذا أمر غير وارد على الإطلاق؛ لأن الإسلاميين يتصرفون في هذه المسألة وكل المسائل من خلال شريعة حاكمة وضابطة تعطي لكل إنسان يعيش في بلد المسلمين حقه من غير وَكْس ولا شطط، وهم يرون أن القيام بذلك ليس مجرد مناورة سياسية يجذبون بها أصوات الناخبين بل يرونه ديناً مسؤولين عنه أمام الله – تعالى – قبل أن يكونوا مسؤولين عنه أمام الخلق، ولا شك أن الدول النصرانية الاستعمارية التي يُخشَى من تدخُّلها قد خبرت المسلمين وبأسهم وشدتهم في القتال والدفاع عن بلدانهم؛ خاصة إذا رأوا في التدخل شبهة حرب دينية، ولقد استطاع المسلمون بجهادهم وثباتهم أن يفككوا إحدى القوتين العظيمتين (الاتحاد السوفييتي سابقاً) وهم في طريقهــم – بإذن الله تعالى – إلى تفتيت القوة الثانية (الولايات المتحدة الأمريكية)، وهذه الدول التي يخشى بعض الناس تدخُّلها عندها من المشكلات الداخلية ما يكفيها وهي ليست في وضع يسمح لها بالقيام بمغامرة عسكرية نتائجها في غالب الأمر ستكون عليهم لا لهم.

وبخصوص المسألة الخامسة: وهي أن الغرب لن يسمح لنا بإقامة حكم إسلامي في بلادنا، فهذا في الحقيقة من أغرب ما يمكن قوله!

أولاً: لأن هذا الأمر معلوم تكلَّم عنه رب العزة والجلال فقال – تعالى -: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217]، وليس بالأمر الجديد.

وثانياً: إذا كانت هذه إرادتهم ورغبتهم، فأين إرادتنا نحن ورغبتنا، ثم إن إرادتهم هذه لن تتغير نظراً لأنها إرادة نابعة من تصوُّر ديني والاستسلام لهذا التصور يعني أنه لن نقيم في يوم ما نظاماً يتقيد بالشريعة.

كثيراً ما يقزِّم بعضٌ منَّا أنفسهم عند الكلام عن مكر الأعداء، وكراهية الكفار للإسلام شيء معلوم لا جديد فيه ورغبتهم في القضاء عليه وعلى المسلمين أمر لا يُشَك فيه، وقد كانت فارس والروم أقوى دولتين على وجه الأرض عند بعثة النبي محمدصلى الله عليه وسلم ولم يستسلم المسلمون أو يضعفوا أمام قوتهم؛ بل جالدوهم حتى قضوا عليهم قضاء مبرماً، فلا ينبغي ونحن نبين كراهية الكفار لنا أن نقزِّم أنفسنا إلى درجة أن نظهر وكأننا لا حول لنا ولا قوة حتى يكون موقعنا الإعرابي في محل المفعول به وليس الفاعل؛ فنكون من يقع عليه فعل الكفار ولا نكون نحن الفاعلين لما نريد وَفْقَ ديننا وعقيدتنا، لكن عند بيان مكر الكفار وكيدهم والتحذير منهم ينبغي أن نبين في الوقت نفسه قدرتنا على مصاولتهم وترحيبنا بذلك إن أرادوا المنازلة؛ لأن الكلام بالطريقة السالفة فيه إحباط للناس وكأن تسلُّط الكفار وغلبتهم للمسلمين للمسلمين قدر مقدور.

ويتبين من كلِّ ما تقدم أن ما يقدمه الحذرون من تولِّي الإسلاميين للسلطة ليس فيه شيء على الحقيقة يعيب الإسلاميين أو يمنع من السعي في تولي السلطة، كما أن بعض الحجج التي ذكرت لن تزول بعدم تولي الإسلاميين السلطة بل ستظل كما هي، ومن الحجج التي ذكرت ما يُعَدُّ من قبيل التصورات التي لا يعضدها واقع صحيح، ومن هنا يكون الاستسلام لمثل هذه الحجج نوعاً من إعطاء الدنيَّة في ديننا.

وإذا كنا كما يحاول بعضهم أن يصور أن الإسلاميين في هذه الفترة ضعفاء فلذلك يكون من الأفضل أن لا يتولوا السلطة حتى تحصل لهم القوة التي تمكنهم من القدرة على تولي السلطة والقيام بمتعلقاتها على الوجه الأحسن، أقول: لو كنا الآن ضعافاً حقاً فهذا مما يحتم علينا السماح لمن يسميهم بعض الناس بالوطنين من خارج المنظومة الإسلامية بتولي السلطة، فإن ذلك لن يزيدنا بمرور الأيام إلا ضعفاً على ضعف ووهناً على وهن، ونكون بذلك قد أفلتنا فرصة لقيادة البلد في اتجاه دينها وعقيدتها لا تتكرر بسهولة؛ فعلى الإسلاميين أن يعزموا ويتوكلوا على الله – تعالى – لتولي السلطة بطريقة مقبولة شرعاً، ويبذلوا جهدهم ما وسعهم البذل في قيادة بلدانهم في اتجاه تحكيم شريعة رب العالمين وتحقيق الآمال والتطلعات التي ترنو إليها الشعوب المسلمة من عقود خلت.

والذي يظهر بعد كلِّ ما تقدم أن الخطورة على المشروع الإسلامي لا تأتي حقيقة من تولِّي الإسلاميين السلطة؛ وإنما تأتي الخطورة من تركهم هذا الأمر لمن يسمونهم بالوطنيين.

زر الذهاب إلى الأعلى